اتّقدت شرارة الثورة ذات 17 ديسمبر من عام 2010 في مدينة سيدي بوزيد المستبعدة من التنمية -كغيرها من مناطق الداخل التونسيّ- من طرف دولة الاستبداد المركزية. لم تفُت إلّا أيام قليلة حتّى انتفضت مُدن الداخل والأحياء المهمشة لتمتدّ الثورة في أغلب المناطق التونسيّة. وما أن حلّ يوم 14 جانفي 2011 حتّى فاضت الشوارع بالتونسيين يحتفلون بمغادرة رأس النظام البلاد. صدحت الحناجر معلنة انطلاق المسار الثوري، وكانت مطالبها الأساسية آنذاك: شغل، حرية، كرامة وطنية. وإن كانت هذه المطالب البِكرُ للثورة فإنّ مطالب الشعب التونسيّ الثّائر على دولة الاستبداد كانت تتجدّد كلّما تقدّم المسار الثوريّ.
يلاحظ المتأمّل في المسار الثوري طيلة العقد المنتهي أنّ الثورة صنعت تغييرا حقيقيّا في البلاد خاصة على الصعيد السياسي. فبعد عقود من مصادرة حقّهم في المشاركة والاختيار، اختار التونسيون بحريّة من يمثّلهم فتكوّن المجلس الوطني التأسيسي الذي عمل على الدستور المصادق عليه في جوّ توافقيّ يوم 27 جانفي 2014 الذي كان يوما تاريخيا في المسار الثوريّ. وطيلة الأعوام العشرة للثورة شارك التونسيون في 3 انتخابات تشريعية «شفافة وجديرة بالثقة” حسب رأي مراقبين من الاتحاد الأوروبي. كما كانت الحريّة للتونسيين لاختيار رئيسهم مباشرة في مناسبتين (عام 2014 ثمّ عام 2019). إضافة إلى نجاح التونسيين في انتخاب السلطة المحليّة التي تمثّلهم في أوّل انتخابات بلديّة أُقيمت بعد نحو ثماني سنوات من اندلاع الثورة.
من أبرز ما عرفته البلاد طيلة السنوات العشر للثورة؛ مأسسة التحوّل الديمقراطي وهو خيار سارت فيه المجموعة الوطنية مدفوعة بما خلّفه نظام الاستبداد من خسائر جسام للبلاد. فشهدت السنوات الأولى للثورة تركيز مجموعة من الهيئات الوطنيّة من أهمّها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهيئة الحقيقة والكرامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري وهيئة النفاذ للمعلومة. لعبت هذه الهياكل الوطنية أدوارا أساسية في تحقيق العملية الديمقراطية ثم في حماية المسار الديمقراطي المنبثق من رحم الثورة. تعمل المجموعة الوطنية حتّى اليوم على سبل استكمال مؤسسات الانتقال الديمقراطي حيث لم تركّز إلى اليوم المحكمة الدستورية وهي المؤسّسة الضامنة لعدم الانحراف القانوني في الدولة. كما أنّ هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة لم تُفعّل بعد في تونس الثورة. يمكننا القول إن الإصلاحات السياسية المنجزة والهيئات المحدثة على أهميتها لم تنجح حتى اليوم في تغيير الواقع المجتمعي نحو تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية. فإلى حدود اليوم لم يتمّ تغيير المنوال التنموي الذي استنفذ صلاحيته. حيث كرّس استبعاد مناطق البلاد من المشاركة في العملية التنموية ومن التمتع بحقهم في تنمية عادلة. لقد أسس المنوال التنموي لفوارق تنموية بين المناطق، أدى إلى غياب العدالة الاجتماعية بين أبناء البلد الواحد، وقد قامت الثورة على هذا المنوال الذي لم تتم مراجعته بعدها.
تونس اليوم محتاجة إلى تفعيل دور مؤسسات الانتقال الديمقراطي والحرص على دعمها رغم العقبات والصعوبات فهي الإطار الذي تنبثق منه القوانين والمبادرات الساعية بالبلاد نحو الكرامة.
الثورة ليست لحظة إنما هي سيرورة من التغيير والبناء. لقد نجحت الثورة في إرساء تحول ديمقراطي جعل من تونس تجربة فريدة من نوعها داخل واقع عربي متأزّم (ليبيا ومصر وسوريا واليمن حيث لاقت الثورة انتكاسات حادة). إنّ نجاح التحوّل الديمقراطي في تونس لن يكون إلاّ عبر إرساء منوال تنموي جديد يحقق الكرامة الوطنية عبر تعزيز لامركزية الدولة الداعمة لمختلف مناطق البلاد والمُفعِّلة مشاركتهم من خلال التركيز على خصوصياتهم واستثمارها استثمارا حقيقيّا.
بقلم: معاذ عكاشة – قسم البحث، مؤسسة الياسمين للبحث والتواصل.