الرئيسية / الحوكمة / ” التنمية الحضريّة وأزمة المدينة: تحدّيات البنية التحتيّة

” التنمية الحضريّة وأزمة المدينة: تحدّيات البنية التحتيّة

تشهد منطقة تونس الكبرى انفجارا سكانيّا حقيقيّا في المناطق الحضريّة، ولتلبيّة الاحتياجات المتزايدة لهذه الفئة من السكان، ينبغي للتنمية الحضريّة أن تسمح بتوزيع سكاني متوازن للمنطقة وأن توفر بنيات تحتيّة ومعدات ذات خصائص عالية، وذلك من خلال مقاربة متكاملة ومتعدّدة القطاعات. وهو ما يشكّل تحدّيا رئيسيّا بالنسبة للمنطقة. من ضمن القطاعات التي يشكل تطويرها تحدّيّا، قطاع النقل إذ أنّ هذا التطوير يتطلّب دعما ماليا كبيرا فضلا عن تعزيز القدرات والتحكم في الأعمال وتعبئة خبرات إضافية.

كما يتطلّب هذا التطوير تغيرات عمرانيّة ومعماريّة في المظهر الحضري لمنطقة تونس، تأخذ بعين الاعتبار تموقع المؤسسات التجاريّة، دور الفاعلين، وحركة التدفقات التجاريّة والخدمية، إذ تطوير قطاع النقل تعدّ عنصرا مهيكلا للمجال ومحركا للعلاقات، كما أنّ النّقل في أغلب الحالات كان المنشأ المطوّر للمدن والعامل الأساسي في تفعيل النمو الحضري واستمرار الحياة الحضريّة.

تعيش العاصمة تونس ازدحاما مروريا رهيبا بشكل يوميّ وخاصة  في ساعات الذروة، على الرغم من الإجراءات والمشاريع التي أطلقتها الدولة التونسيّة منذ سنوات للتخفيف من وطأة هذا الكابوس الذي طالما أرق مواطني العاصمة. ففي الوقت الذي يبدي المسئولون تفاؤلا كبيرا بالقضاء على الازدحام المروري بفعل المشاريع التي تمت برمجتها من قبل مصالح وزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابيّة  لتوسعة الطرقات وتجسيد ازدواجية البعض الآخر منها وتشيد الجسور وتوسعة مشروع السكة الحديديّة السريعة عبر إضافة خطوط تربط العاصمة بالضواحي، إلا أن المواطن الذي يعيش في العاصمة وكل من يلج عاصمة البلاد يلاحظ في السنوات الأخيرة ازدحاما مروريا رهيبا، يرفع مستوى الضغط على البنية التحتيّة وعلى أعصاب المواطنين.

سعت الدولة التونسيّة منذ ما قبل ثورة 2011 إلى إيجاد حلول عمليّة تساهم في معالجة إشكاليات النقل الخاص والعمومي من ناحية وظاهرة الازدحام المروري والتلوث جراء الانبعاثات الغازيّة من ناحية أخري لتشرع في مرحلة أخري في إعداد دراسة حول توسيع شبكة السكك الحديديّة السريعة في العاصمة عبر تأسيس شركة تونس للشبكة الحديدية السريعة سنة 2007 وذلك بهدف إنشاء شبكة حديدية سريعة في تونس الكبرى وأحوازها وكذلك إنجاز ومتابعة كل الدراسات والإجراءات التجارية والمالية والعقارية المتصلة بالمشروع بشكل مباشر أو غير مباشر. بدأت أشغال الهندسة المدنية في 2009، وبحدود 2010 تم توقيع كل الصفقات المتعلقة بمختلف أقساط المشروع. وقد كان من  المقرر أن يفتتح أول قسط للمشروع في2019 وفق ما أوردته شركة تونس للشبكة الحديديّة السريعة من أخبار، إلا أننا إلى حدود هذا اليوم ونحن في نهاية 2020 لم يتم الانتهاء من أشغال الخطوط الحديديّة السريعة.

مشروع الشبكة الحديدية السريعة هو مشروع نقل جماعي عمومي في منطقة تونس الكبرى يتمثل في شبكة حديدية سريعة متكونة من 5 خطوط طولها الإجمالي 85 كم، ومن المقرر أن يفتتح قسطها الأول الذي كان مبرمجا في 2019  وبتمويل من البنك الأوروبي للاستثمار، الوكالة الفرنسيّة للتنمية، بنك التنمية الألماني والاتحاد الأوروبي[1].

يمثّل مشروع السكك الحديديّة السريعة انجازا منتظر لأهل العاصمة ويعبّر عن احتياجاهم اليوميّة في حق التنقل دون أرق أو عناء الانتظار أو حتى ازدحام مروري خانق، مع العلم أنه من المبرمج انجاز مأوي للسيارات الخاصة قرب محطات الترابط لتشجيع مالكي السيارات على استعمال وسائل النقل الجماعي.

 مشروع السكك الحديديّة السريعة هو مشروع يفترض أنّه سيخلّص العاصمة وسكانها من كابوس الازدحام والتلوّث الجوي الذي عمّ أجواء العاصمة، ولا يفترض أن يشكل انجاز شبكة السكك الحديديّة السريعة تهديدا على البيئة خاصة وأنّه يعمل بالطاقة الكهربائيّة وقد استعملت الشركة تقنيات حديثة على السكك الحديديّة لتقليص ضجيج القطار حين مروره وفق معطيات شركة تونس للسكك الحديديّة السريعة. مع كل هذا يجدر بنا أن نتساءل حول تأثيرات خطوط السكك الحديديّة السريعة على التوسّع العمراني والمشهد الحضري خاصّة وعلى التنمية المستدامة عامة؟ مع العلم أنّ أغلب الأحياء التي سيمرّ بها القطار السريع هي أحياء شعبيّة نذكر منها: أحياء حي هلال، الملاسين، الزهور، سيدي حسين ودوار هيشر…

ورغم أنه لا ننفي مدى أهميّة هذا المشروع على الحياة الاجتماعية للسكان والمدرج ضمن التوجّهات الكبرى للدولة التونسيّة، ولكن من الضروري أن نعتمد في تنزيله مقاربة متكاملة ومتعدّدة القطاعات ترمى إلى الأخذ بعين الاعتبار الجانب الحضري للمدينة وليس فقط الجانب التقني تقوم على مخطّط تنمية يأخذ بعين الاعتبار كافة الأنشطة والفعاليات الاقتصاديّة والاجتماعيّة’ والثقافيّة كما يتأقلم مع التحولات الحضريّة والاجتماعيّة في تونس ويترجم هذا في إطار القانوني للتهيئة والتعمير يستوعب هذه التحولات وينظّمها.  من الضروري أن تشمل مخططات التهيئة الترابيّة والتعمير تأثيرات خطوط السكك الحديديّة السريعة على عدّة أصعدة.

التأثير على الجانب الصحي والنفسي للسكان:

التزاحم الشديد والتحولات الحضريّة التي يمكن أن تنجرّ عن مشروع خطوط السكك الحديديّة السريعة  وعدم ترك مساحات وفراغات يمكن أن يؤدي إلى فقدان خصوصيّة هذه المناطق مع زيادة درجة التلوث السمع والبصري والبيئي ، وقد يؤدي هذا إلى زيادة الأمراض البدنية والاجتماعية والنفسية بين السكان، بما يعكّر أوضاع المناطق التي ستمتدّ فيها السكك الحديديّة والتي تعدّ بؤرا لانتشار العنف والانحراف، وتتفاقم فيها ظاهرة البطالة وانخفاض مستوى التعليم.

هل أنّ البنية التحتيّة الموجودة قادرة على إستعاب الكم الهائل من المسافرين ؟

من المبرمج أن تمتدّ الشبكة في مرحلة أولى على طول 29 كلم من جملة 85 كلم تقريباً، باتجاه المناطق الغربية من تونس على الخط «د « الذي سيربط بين محطة برشلونة ومنوية والمنيهلة بطول 19.2 كلم والخط الثاني سيربط بين محطة برشلونة والزهور والزهر وني والسيجومي بطول 13.9 كلم منها 6.3 كلم على الخط المستغل اليوم بين محطة برشلونة ومحطة بوقطفة المزدوجة السكة.وستؤمن هذه الشبكة طاقة استيعاب عالية تفوق ال 20 ألف مسافر في الساعة في الاتجاه الواحد. وسيبلغ طول القطار الواحد في هذه الشبكة 220 مترا وطاقة استيعابه 2000 مسافر أي ما يعادل 1200 سيارة تقريبا. وتقدر سرعته التجارية ب40 كلم في الساعة لتصل في حالات السرعة القصوى إلى 120 كلم في الساعة[2].

يطرح هذا المشروع إشكالية الطرقات وتهيئتها الذي تعتبر معالجتها ضرورة ملحّة إذ أنّ هذه الأحياء أغلب طرقاتها لا يتجاوز عرضها 6 متر مع الحالة السيئة لهته الطرقات والتي من الممكن أن تطرح إشكالا من حيث الازدحام أثناء أوقات الذروة، ومن ناحية أخري يطرح هذا المشروع أيضا ضرورة اتخاذ تدابير لتنظيم الباعة الذين سينتصبون من القرب من هته المحطات، إذ من الممكن أن نقوم بتجربة مقارنة مع المترو الخفيف الذي بدأ استغلاله في بداية الثمانينيات  وخاصة في منطقة الانطلاقة بحي التضامن حيث سبّب انتصاب الباعة الغير منتظم واستغلال الرصيف بطريقة غير قانونيّة اختناقا مروريا حادا، مع العلم أنّ الاختناق المروري لا يؤثر فقط على حركة المرور فحسب بل على التلوث السمعي والبصري والهوائي. لنعود في مرّة أخري ونطرح السؤال أيّ تأثير لمشروع شبكة السكك الحديديّة السريعة على التنمية المستدامة ؟ والي أي مدى الصلاحيات الجديدة الموكولة للبلديات في إطار اللامركزيّة تساهم في لعب دورها  لمجابهة الآثار السلبيّة لهذا المشروع ؟

خلق صعوبة في تسيير الأحياء الغير منظّمة:

أمام تراجع المدّخرات العقاريّة لتونس الكبرى تفتقر الأحياء الشعبيّة والغير منظمة إلى مختلف الضروريات وتحدّيات التنمية المستدامة  المتمثلة في مناطق خضراء، فضاءات عموميّة، فضاءات للترفيه، لذا تبرز مشاكل عديدة مما يشكل تحديا للمسئولين على المستوى المحلى للقيام بتهيئة وإعادة هيكلة هذه الأحياء التي في الغالب تطرح صعوبات أخرى خاصة التي تتواجد على مواضع خطيرة وغير قابلة للتعمير، وحتى المناطق القابلة للتعمير نجد فيها صعوبات في عملية شق الطرق لعدم ترك مساحات لذلك، إضافة إلى عدم ترك مساحات لإقامة المرافق الأساسية والخدمات، ومشكلات التلوث وسوء التصرف في النفايات المنزليّة، والتي تؤثر سلبا على البيئة الحضريّة والأفراد الساكنين من جهة أخرى، وأمام ضعف الإمكانيات الماديّة والبشريّة تجد السلطات نفسها أمام إشكالية كبرى في ضمان التحكم الجيّد لمثل هذه الظاهرة. في  مقابل كل هذا يتأخر تحيين أمثلة التهيئة العمرانيّة والأخذ بعين الاعتبار النمو الحضري للمدينة من ناحية ودراسة تأثير خطوط السكك الحديديّة السريعة على البيئة الحضريّة من ناحية أخري.

انعكاس مرور السكك الحديديّة السريعة على الأحياء الشعبيّة:

وبالعودة إلى استغلال خطوط الترامواي وخطوط المترو الخفيف كان لسياسة توسع شبكة السكك الحديديّة دورها الفاعل في تنمية وتطور المجال العمراني والحضري وتوسعه، فبعد توسعته أصبحت المدينة وخاصة الأحياء التي تمر بها هذه الخطوط  تتمتع بحيويّة ونشاط هام في جميع الميادين مع خلق مواطن شغل، مرافق خدمات…الخ، إلا أنّ عدم مواصلة التحكم في هذا التحول الاقتصادي والعمراني بترشيده ومعالجة تداعياته قد كانت له آثار سلبية على المدينة ومنها الانتصاب الفوضوي للباعة على أطراف المحطّات مع خلق لازدحام مروري خانق في بعض الأحيان والاستيلاء على الأرصفة من قبل الباعة المتجولين، بالإضافة إلي المنافسة على الأراضي المخصصة للبناء والأراضي الفلاحية، وظهور أشكال عمرانية غير منتظمة وغير قانونيّة والذي تجسد في البناء الغير منظم ، والذي شكلت أحياؤه حزام بؤس محيط بالمدينة  يشوه مظهرها المورفولوجي.

السور المحيط بسكّة القطار وتأثيره على الأنشطة الاقتصاديّة :

أمّا السور المحيط بالسكّة الحديدية السريعة فنلاحظ مروره عبر أحياء وتجمعات سكانيّة على الطريق الرئيسي أين توجد عدّة أنشطة اقتصاديّة ومحلات تجاريّة كانت تتميّز بحيويّة اقتصاديّة، إلا أنها اليوم تعاني من ضعف مردودها الاقتصادي وبعضها قد أغلق جراء العزلة التي تعيشها من جراء السور الجديد الذي عزلها وفرّق بينها وبين الأحياء الأخرى، فهنا يجدر بنا أن نتساءل هل أنّ الشركة التونسيّة للسكك الحديديّة والجماعات المحليّة أخذت بعين الاعتبار تأثيرات السور على التحركات الاقتصاديّة أو هل أنّ هنالك حلول عمليّة لتفادي هذه العزلة أو تفاديها في المستقبل القريب ؟   

تمثل البنية التحتية الهيكل المنظم واللازم لتشغيل وعمل المشروعات أو لتحقيق الخدمات أو المرافق اللازمة والضرورية لجذب الاستثمارات و نمو الاقتصاد بما يحقق التقدم والازدهار على أداء المشروعات ، وفي ظل عدم توفر البنية التحتية الملائمة التي تأخذ في الاعتبار الجانب الاجتماعي والحضري للمدينة يمكن أن يؤثر سلبيا على أداء المشروعات الاقتصاديّة وعلى المشهد العمراني للمدينة باعتبار أنّ النمو الحضري للمدينة من أبرز أسبابه المشروعات الكبرى للنقل ليساهم في توسع المدينة بكافة مجالاتها ، تنمو مدن تونس الكبرى بسرعة كبيرة تجعل السلطات تكافح من أجل التغلب على الظاهرة. وإذا لم تتم إدارتها بشكل صحيح خاصة مع انجاز مشروع ضخم كخطوط السكك الحديديّة السريعة، فستواجه هذه المدن تحديات عديدة في تلبية احتياجات سكان المدن المتزايدين، بما في ذلك الأمن الصحي والسكن وفقدان جماليّة المدينة وخصوصيتها العمرانيّة والمعماريّة والخدمات الأساسية.

محمد علي الكردي مخطط مدن وباحث في التنمية الترابية والتعمير


[1] موقع شركة تونس للسكك الحديديّة السريعة

 [2] موقع شركة تونس للسكك الحديديّة السريعة

عن +

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى