إنه لَمِنَ الممتعِ أن تخط مسارا ديمقراطيا تكونُ أولَ من يسلكه و أولَ من ينتهجه لا أولَ من يُنَظِّرَ له و يكتفي به حبرا على ورقٍ في كتابٍ مهملٍ على أدراجِ مكتبةٍ تعصفُ بها الأتربة.
إنه لمن دواعي الفخر و الإعتزاز أن أكون شاهدةً على تاريخٍ يكتب و ثورة يبتدعها شعب عربي مسلم من رحم المعاناة حقبة وراء أخرى بطريقة متفردة أيضا لم يسبقنا إليها أحد من قبل فنسقط سلطة قائمة على فساد منقطع النظير و دولة بوليسية يشهد لها بالكفاءة دوليا دون أن نخطط لذلك، فيهب شعب كامل لا على قلب رجل واحد بل على كلمة واحدة لا يرتضي بغيرها بديلا : إرحل- .Dégage
ردة فعل على صفعة غيرت وجه التاريخ كانت شرارة أوقدت لهيب ثورة لم تخبو بعد، فمن كان يقول أن بائعا متجولا كان ليسقط نظام التحول ؟ و تتهاوى بعده صروح الدكتاتورية العربية واحدة بعد أخرى في مشهد كاريكاتوري ساخر فهل كانوا فعلا كرتونيين لتلك الدرجة حتى يهتزوا بتلك الطريقة و تتخلخل أقدام كراسيهم النابتة عقودا
من الزمن في أماكنها ؟
تونس الآن و بعد ثلاث سنوات من تاريخ 14 جانفي ذلك التاريخ الرمزي الذي مثل نقطة بداية طريق اللاعودة في النظام البنفسجي في رصيدها :
أول إنتخابات عربية نزيهة.
أول مجلس تأسيسي نابع من إرادة حرة لشعبه بدون رقابة ولا فرض و لا تسلط.
إغتيالان سياسيان أثمرا ثلاث حكومات متعاقبة في فترة زمنية قصيرة ، واحد فقط من هذين الإغتيالين كان كفيلا بأن يُقِضّ مسار التجربة المتفردة و يهدم الصرح العالي الذي يترقبه العالم أجمع بتوجس و خوف و شك، و لكن هذا الشعب العظيم يأبى إلا أن يحني رأسه حتى تمر العاصفة و يعود لعليائه شامخا فيما بعد.
أول حكومة إسلامية المرجعية في العالم العربي برؤية معاصرة الفهم و التطبيق، ترضخ للضغوطات ، تناور سياسيا و تكتيكيا ، تقبل و ترفض، تفرض و تتراجع ، تتحالف في أول خطوة لها مع العلمانيين لتكوين ترويكا حاكمة في خطوة نوعية لم يشهد مثلها في التاريخ المعاصر للحركات الإسلامية العربية مما يخرج بها عن نمطية معينة و سقف أعلى ليس مسموحا لأمثالهم بأن يرتفعوا عنه ، تتراجع عن قضايا و ثوابت كانت تعد بديهية في المراجع الإسلامية التقليدية و تتفاعل إيجابيا مع خصومها السياسيين إذ تعتبرهم شركاءها في الوطن للوصول إلى أرضية مشتركة تمكنهم من إيجاد حلول وسط : أولا الشريعة كمصدر أساسي أو وحيد للتشريع في الدستور ، تليها مسألة تجريم التطبيع و غيرها الكثير من المسائل الخلافية و الشائكة التي تراجع المجلس التأسيسي الذي تشكل فيه أغلبية عن التنصيص عليها في الدستور، الشيئ الذي فاجئ خصومها السياسيين و الإيدولوجيين قبل غيرهم ، فكانت بذلك أولى خطوات التفرد و التمييز التي تخط في سطور التجربة التونسية العظيمة ، فليست تجربة نمطية يمكن التكهن بما يمكن أن يكون فيها أو إستقراء واقعها بما يمكن من تخميين مستقبلها بل هي تجربة متفردة تصنع منوالها و طريقها للتعايش السلمي و الإنتقال الديمقراطي.
أول ديمقراطية ناشئة يتعلم فيها السياسي جنبا إلى جنب مع المواطن ما تقتضيه الخطوات الأولى في التعلم : إكراهات الواقع المختلف عن التنظير ، يتعلم فيها السياسي السياسة و المواطن المواطنة كتفا بكتف ، حيث وحدها التجارب الأولى التي لم يسبقك فيها غيرك تحدد من أنت ؟ و أين أنت ؟و إلى أين أنت ذاهب ؟
صنع هذا التفرد شعب تونسي متجانس في كليته ، عريق بحضارته ، راق في تعامله ، شعب طيب المعشر هادئ الطباع لا يميل للصدامات في حله لمشاكله ، فحتى في أشد فترات نظام بن علي البوليسي وطأة، و تقتيله للشعب، حافظ هذا الأخير على سلمية غلبت الرصاص المستقر في الصدور العارية، و هو أساس نجاح التجربة التونسية إلى حد الآن ومرونة عالية في التعامل مع الأحداث المتسارعة الوطنية منها و العالمية ، ووعي جمعي عال لشعب ذي أغلبية متعلمة و مثقفة ، شعب خط بيده تاريخا سوف يُدرَسُ و يُدَرَّسُ كأنموذج اجتماعي و سياسي متفرد خط تجربته بفضل تراكمات حضارية ساهمت في مزيد ترسيخ قيم التسامح و التعايش السلمي لديه.
كشابة تونسية عايشت صنع التاريخ و كتابته و عشت فرحا بفرح و فخرا بفخر اللحظات التاريخية في التجربة التونسية لا أستطيع إلا أن أتفاءل بهذه التجربة و أتطلع لمزيد من التفرد و التميز لهادون أن أغفل أهمية المرحلة القادمة و ما تتطلبه من مثابرة و عمل دؤوبين حتى نحافظ على مكتسبات تحصلنا عليها بعد ثلاث سنوات من جهة و حتى نواصل شق الطريق الذي اجتزنا فيه مرحلة أولى في بناء أسس جمهورية ثانية تقطع مع جمهورية الظلم و الإستبداد التي ابتدأها بورقيبة و خلفه فيها بن علي ، و حتى نؤكد النجاح الذي وصلت إليه هذه التجربة.
أول أمس، تاريخ المصادقة النهائية على الدستور، كان يوما إستثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى حيث تلت مظاهر احتفالية إعلان نتائج التصويت على الدستور برمته في ساعة متأخرة من الليل، حيث إختلطت المشاعر و مرت فيها كل اللحظات منذ الثورة حد اللحظة في شريط متلاحق أمام أعيننا ، بحلوها و مرها بفرحها و حزنها ، بكل تفاصيلها التي خلت أنني نسيتها ، و أمس، تاريخ الإمضاء النهائي من قبل الرئاسات الثلاث على الوثيقة النهائية للدستور، كانا يومين تاريخيين بامتياز سوف يذكرهما التاريخ العالمي لا الوطني فحسب لما فيهما من رمزية قوية لتجربة فريدة في التاريخ المعاصر لاتزال مستمرة.
بقلم : عبير البوعزيزي