عندما نفكّر في الصحة،نرى على الفور دور المهن الطبية والمستشفيات والعيادات التي تعالج المرضى. عادة لا نفكر في مخططي المدن كمساهمين في جهود الطب الوقائي. في حين يعتبر دور التخطيط الحضري جوهريّافي اعتماد استراتيجيات وسياسات تؤدي إلى أنماط حياة صحية جيّدة.
في أوائل القرن التاسع عشر شهد العالم انتشارا للأوبئة مثل الطاعون والكوليرا أودت بحياة الآلاف عبر العالم حيث وجب آنذاك إيجاد آليات أو سياسات صحيّة أو حضريّة لمعالجة انتشار الأوبئة، لتشهد نهاية القرن التاسع عشرإجراءات مشتركة للصحة العموميّة والتخطيط الحضري في مكافحتهما للأوبئة ولتحسين الظروف المعيشية في المدن المكتظة بالسكان، انفصل النظامان، بعد أن عاش العالم فترة من الازدهار والتطور الاقتصادي والصناعي والاجتماعي ومع التقدّم في الطبّ والصيدلة، حلّ العلاج تدريجيّا محلّ الوقاية، ليعود ويفصل النظام الصحي عن النظام الحضري لعقود أخري. في الواقع، على الرغم من أن المهنتين تشتركان في أهداف مماثلة، فإن مقاربتهما المنهجية تختلف. ومع ذلك، بعد عقود، يجب أن يجتمع النظامان مرة أخرى لمواجهة الأوبئة الجديدة: الأمراض المزمنة (الربو والحساسية)، والتي يجب أن تضاف إليها السرطانات وأمراض القلب والأوعية الدموية والرئة والسكري والسمنة، التي يبدو أنها مرتبطة بالتلوث (الهواء والماء والتربة). وبينما ركزت التنمية المستدامة على الحفاظ على البيئة، فقد أهملت التحديات التي تواجه سكان المناطق الحضرية المحرومين.
إن التفاوت الإقليمي يزداد سوءا من حيث التنمية والذي يؤثر سلبا على مستوى وجودة الصحة العموميّة. إذ يمكن النظر إلى الاتجاه المتزايد في إصدارالقوانين والنصوص الترتيبيّة وتوحيدها من حيثالتهيئة العمرانيّة المستدامة كفرصة لتعزيز المرونة في الصحة العموميّة. يجب أن يساعد التعاون بين المتخصصين في الصحة العموميّة والمخططين في تقريب استراتيجياتهم من بعضهم البعض.
من جهة أخرى مع انتشار فيروس كورونا الجديد وتفاقم أثره، وتضافر جهود مواجهته، تبرز أهميّة الرجوع للمختصين، كلّ في مجال تخصّصه، لمواجهة هذا الفيروس في المدن والقرى، والأماكن الحاضنة للكوارث والأزمات بشكل عام،وكما تبرز بشكل خاص أهمية الوقاية ضده بالعمل على تقوية المناعة الفردية والجماعية بالمعنى الفيزيزلوجي ولكن أيضا بالمعنى الاجتماعي إذ أن قدرة المجتمعات على التصرف السريع وأخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب ومرونتها في التكيف مع المخاطر الصحية التي تواجه الأفراد والجماعاتتصبح ضمانا لاستمراريتها والتخفيض من كلفة وانتشار الأمراض والأوبئة فيها واستعادة عافيتها.
يساعدالتخطيط الحضري والإقليمي المستدام، بأبعاده الصحية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، في مواجهة الأمراض المعدية، وتلوث الهواء ومشاكل البنية التحتيّة من توفر وجودة النقل الحضري الذي بات يمثّل تهديدا حقيقيا على صحّة المواطنين في هذا الظرف الصحي الحرج، إلى جانب إشكاليات الصرف الصحي، وتوفير المسكن الصحي، ونقص الخدمات والمناطق الخضراء، وتراجع المدّخرات العقاريّة وارتفاع نسبة البناء الغير منتظم، الذي ممكن أن يؤدي إلى مزيد ارتفاع معدل التعرض للكوارث وخطر الإصابة بالأمراض. إذ أنّ التخطيط الحضري المستدام يأخذ في الاعتبار صحة ساكني المدن والقرى، على العيش بطريقة أكثر أمنا وصحّة وذلك من خلال إيجاد مدن مستدامة تساهم من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة وقاعدة بيانات صلبة، في تحسين البيئة الحضرية والحد من المشاكل البيئية، وتسهيل توفير الخدمات والتثقيف بها، ومنها الصحية.
الجدير بالذكر أنّه يجب أن تواجه الكوارث الطبيعية الحديثة والأوبئةبخطة تأهب دقيقة في كل مدينة لإعطاء السكان طريقة حياة أكثر أمناً.في أعقاب الكوارث الطبيعية والأوبئة والتهديدات المدنية الحديثة والمتكررة، هناك شعور حقيقي يحضر بإلحاح لجعل المدن أكثر مرونة واستدامة.علاوة على هذا يتزايد الاعتراف بأهمية سياسات المرونة في المناطق الحضرية في العديد من دول العالم باعتبارها سمة رئيسية لنظام حضري فعّال. وغالباً ما تتركز المناقشات الدائرة حول المرونة والقدرة على التكيف مع الكوارث التي تسببها المخاطر الطبيعية. غير أن المدن تتعرض أيضاً بشكل منتظم لصدمات وضغوط أخرى عديدة غير هذه الكوارث. ولا تختلف المدن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن غيرها، فهي تواجه مجموعة كبيرة من هذه التحديات خاصة مع اهتراء البنية التحتية للمدن القديمةا.[1]
بدون بذل جهود لتعزيز المرونة الحضريّة في المنطقة عامة وفي تونس خاصة، فانّ اهتراء بنيتها القديمة مع التوسّع الحضري السريع سيعرض المدن لمخاطر كثيرة الطبيعيّة منها أو غيرها من الصدمات والضغوط. إضافةإلى هذا، يؤدي النزوح من الريف إلى المدينة إلى زيادة الضغوط على شبكات الخدمات الأساسيّة واستفحال ظاهرة البناء الغير منتظم، بالإضافة إلى تدهور حالة المنشآت العمومية وخاصة الصحيّة والتي بدورها تعاني العديد من الصعوبات، من اكتظاظ وعدم قدرتها على تلبية الاحتياجات المتزايدة للمتساكنين وهو ما يمكن أن يساهم في مزيد انتشار الأوبئة.
من جملة المجهودات التي تبذلها جل مدن العالم لمجابهة الكوارث الطبيعيّة منها أو غيرها من الصدمات، هي الربط بين السياسات المدنيّة والحضريّة وتقويّة قدرة المجتمعات على التكيّف مع هذه المخاطر، أصبح من الواضح أنّ دول العالم عامة وتونس خاصة ليست بمنأى عن هذه المخاطر والدليل على ذلك انتشار فيروس كورونا الجديد لتصبح الكوارث أو الأوبئة واقعا يتشارك فيه العالم بأسره، مع التطور السريع لسكان العالم وزيادة الضغط على المدن الكبيرة وتزايد نسب المخاطر، تتهيأ من الجهة الأخرى المجتمعات بشكل مستمر من خلال تنمية قدراتها البحثيّة والعلميّة عن طريق الرقمنة والمدن الذكيّة والتخطيط المحكم للمدن. تونس ليست في معزل عن التحولات الاقتصاديّة والاجتماعية والعمرانيّة التي يشهده العالم اليوم، ويتعين عليها في زمن الديمقراطية أن تعمل على تحسين قدرتها على التوقي وإحكام مجابهة الكوارث والمخاطر بتخطيط حضري يشمل تقويّة مناعة المدن عبر تخطيط حضري استراتيجي يستشرف على المدى المتوسط والبعيد سبل تهيئة مناخ يسمح للمدن بإيجاد الوسائل الضرورية لتحقيق إطار معيشي ملائمة لسكانها تتوفر فيه أسباب الراحة والرفاهية داخل المدن، وحشد القدرات من موارد كافية لمجابهة هذه الكوارث والأوبئة في المستقبل.
[1]https://blogs.worldbank.org/ar/sustainablecities/disasters-due-natural-hazards-are-just-tip-iceberg-mena-cities
بقلم محمد علي الكردي مخطّط مدن وباحث في التنمية الترابية والتعمير | قسم الإعلام البحثي 2020 ©