يمرّ العالم اليوم بجملة من التغيرات الاقتصاديّة والسياسيّة، بالإضافة إلى تغيرات مناخيّة ومشاكل بيئيّة والتوسع العمراني على الأراضي الفلاحيّة مما يمثّل ضغوطا كبيرة على جودة الحياة وتهديدا للأجيال القادمة. في زخم التطوّرات والضغوطات الخارجة عن السيطرة التي تشهدها جل مدن العالم من ناحية والتحديات التي يواجهها مخططي المدن من ناحية أخرى، لا شك أن حلم مخططي المدن يكمن في اختيار مساحات فارغة أو إعادة إنشاء مدن حديثة، طموحة، ومتكاملة لتجمع بين النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتحقيق العدالة الاجتماعية خاصة ولمقاربات الأمن الإنساني[1] عامة، ومع هذا فان الحقيقة تجعل من هذا الحلم شبه مستحيل لأن التوسع العمراني على الأراضي الريفيّة يشهد تطورا غير متحكم فيه لا يخضع لآليات التخطيط العمراني، إضافة إلي أنّ النزوح المتواصل لسكان الأرياف نحو المدن الكبيرة[2] يجعل المدن تتقدم بطريقة مضطربة وتجعل التحكم فيها أمر صعب ومعقد، بما يخلق مع هذه التطورات الغير منتظمة للمدن مساحات حضريّة “سيئة أو غير منتظمة“ تتميّز بغياب التوازن في توزيع الموارد لتستحق إعادة تنظيم معيّنة.
لمواجهة هذه الصعوبات أحدثت دول العالم استراتيجيات وأدوات عمليّة لإعادة تنظيم المجال الترابي والعمراني تربط بين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي واحترام البيئة. وكانت من جملتها تونس التي أعدّة نصوصا وقوانين بغية تنظيم المجال الترابي وتحسين جودة الحياة وتحقيق التنمية الاقتصاديّة العادلة بين الجهات وتقليص التفاوت الاجتماعي، ومن أبرزها كانت مجلة التهيئة الترابيّة والتعمير لسنة 1994 ( قانون عدد 94-122 المؤرخ في 28 نوفمبر 1994).
يعرف الفصل الثاني التهيئة الترابية كما يلي ” يقصد بالتهيئة الترابية، جملة الاختيارات والتوجهات والإجراءات التي يتم ضبطها على المستوى الوطني أو الجهوي لتنظيم استعمال المجال الترابي والتي من شأنها أن تضمن خاصة التناسق في تركيز المشاريع الكبرى للبنى الأساسية والتجهيزات العمومية والتجمعات السكنية”. مع هذا ظلت أبرز إشكاليات التهيئة الترابية والتعمير في تونس إشكالية مركزيّة القرار وعدم مشاركة المواطنين في أخذ القرار خاصة في مشاريع القرب ومشاريع التهيئة الترابية كمثال التهيئة العمرانية الذي يمثّل قربا للمواطن والذي يمكن بأن يبدي رأيه واقتراحاته في هذا المجال .
وقد كانت هذه الإشكاليات في قلب الحراك المجتمعي الذي انبثق عن الثورة التونسية سنة 2011 إذ برز غياب التنمية العادلة وتعمق ظواهر القمع والإقصاء والتهميش والظلم كأحد أهم محرّكات الثورة. ولذلك انطلقت الثورة من أكثر المناطق تهميشا وفقرا ومن أهم مطالبها تحقيق التنمية العادلة. فبرز مسار اللامركزية كأحد الأطر المثلى لتلبية هذه المطالب و تحقيق أهداف ديمقراطية القرب و المواطنة والمشاركة كإطار أمثل لسياسات تنمية عادلة و مرتبطة بالحاجيات الحقيقية للمواطنين و هذا نقيض التهميش و أساس لاستعادة المواطن لكرامته.
جاء دستور 2014 ليكرس اللامركزيّة كمبدأ أساسي للنموذج التنموي الجديد الذي يليق بتونس الثورة وتأكيدا على ذلك أنتج برلمان الثورة مجلّة الجماعات المحليّة. بما يوجب مراجعة بقيّة المجلّات القانونيّة بما يتماشى ومطالب الثورة. فالتهيئة الترابية والتعمير تندرج صلب صلاحيات الجماعات المحليّة لذا فإنّ مراجعة مجلّة التهيئة الترابيّة باتت ضروريّة بما ينسجم مع ما نصّت عليه مجلّة الجماعات المحليّة ما بعد الثورة ودستور(26 جانفي 2014).
منذ الاستقلال إلى حدود المصادقة على دستور 2014 ومجلة الجماعات المحليّة لسنة 2018، اتصفت التهيئة الترابيّة والعمرانيّة بضعف اللامركزية من حيث التصور والتقسيم الترابي والاختصاصات والوسائل الماديّة والبشرية. هذا بالإضافة إلى غياب الاستقلالية وثقل الرقابة ومحدودية الصبغة التمثيلية والديمقراطية، والتي عرفت منذ صدور دستور 2014 ومجلة الجماعات المحلية لسنة 2018 مراجعة جذرية بغية إرساء اللامركزية صلبة الأسس عميقة الصبغة الديمقراطية في تنظيمها وممارستها.
لقد سعي دستور 2014 الجديد إلى تقليص مركزيّة التهيئة الترابية والعمرانيّة في مواضع عديدة. بداية من الباب السابع المخصص للسلطة المحليّة على عدّة نقاط مهمة تؤسس للامركزية ترابية فعلية قائمة على التوفيق بين مقتضيات الديمقراطية المحلية وما تقتضيه من مشروعية واستقلالية في التسيير والقرار وضرورة الحفاظ على وحدة الدولة، وقد نصّ الفصلان 14 و 131 على التزام الدولة الصريح بدعم اللامركزية كأساس للتنظيم الترابي وتسير الشأن العام مع الحرص على التوازن بينهما وبين المحافظة على وحدة الدولة، كما يكرس الفصل 139 من دستور 2014 مبدأ الديمقراطيّة التشاركية مما يعني تجاوز حدود الديمقراطية التمثيليّة وإثراءها بالبعد التشاركي.
واضح -إذن- أنّ دستور الثورة قدّم طرحا يضفي صبغة ديمقراطيّة على المستوى التنظيمي ترمي إلى إعادة النظر في التقسيم الترابي، وذلك ما تمّ انجازه بالفعل والعمل عليه بعد صدور دستور 2014 حيث تمّ إحداث 86 بلدية جديدة مع تعديل الحدود الترابية ل187 بلديّة وبذلك أصبح عدد البلديات المعممة على التراب التونسي يساوي 350 بلدية بعد أن كان 264 قبل سنة 2015. كما يتسم الوضع الحالي بإرساء نظام إداري جديد للجماعات المحليّة تحكمه مبادئ اللامركزية والحوكمة المحليّة والتدبير الحر وغيرها من المبادئ التي يكرسها القانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 مؤرخ في 9 ماي 2018 والمتعلق بمجلة الجماعات المحليّة.
وإذ يبدو من الأسهل عموماً تطبيق آليات الديمقراطية التشاركية على المستوى المحلي في برامج التهيئة الترابيّة والتعمير، إلا أن الانتقال من الحوكمة المركزية التي تنطلق من أعلى مستويات الهرم إلى أدناه، نحو عملية تشاركية تنطلق من أدنى إلى أعلى، يتطلّب مراجعة أو إعادة صياغة مجلة التعمير بعد مضيّ أكثر من عشرين سنة على تطبيقها وفقا “القانون عدد 122 لسنة 1994” المتعلّق بمجلّة التّهيئة التّرابيّة والتّعمير، والتي برزت من خلالها مجموعة من العراقيل والإشكالات النّاتجة أساسا عن محدوديّة أحكام المجلّة الحاليّة في تنظيم المجالين التّرابي والعمرانيّ للبلاد، إضافة إلى عدم ملاءمة هذه الأخيرة للرّهانات التي انبثقت عن الباب السّابع من الدّستور المتعلّق بالسّلطة المحلّية. وبناء عن ذلك، أصبح من الضّروري تفعيل دور الجماعة المحليّة ومنظمات المجتمع المدنيّ في وضع التّصوّرات وإعداد أدوات التخطيط العمراني وضمان التّناسق بين برامج التّهيئة والتّنمية،مع ملائمة وثائق التخطيط التّرابيّ وكذلك العمرانيّ للمعايير الدّوليّة على غرار مقاييس الاستدامة[3].
يرسخ ما سبق شرعيّة المطالبة بالتسريع في المصادقة على مجلة التعمير أو مجلة التهيئة والتنمية الترابية والتعمير في نسختها الجديدة والتي لا تزال عالقة بين إدارة التعمير بوزارة التجهيز ورئاسة الحكومة قبل تمريرها إلى مجلس نواب الشعب للمصادقة. يجدر الذكر أنّ تأخير المصادقة على المجلة لا يؤثر فقط على عمل البلديات بل على المشهد العمراني والتنظيمي للتراب التونسي رغم ما تحتويه مجلة الجماعات المحلية من فصول تضمن دور مسار اللامركزية في التنمية الترابية والتعمير.
ومن هنا من المهم التسريع في إعادة صياغة مجلّة التهيئة والتعمير لعدة أسباب أهمها متعلقة بضعف السياسة السكنية والعمرانية في تونس وهو غياب سياسة عقاريّة واضحة، وغياب آليات خصوصيّة تساعد البلديّة على تمويل برامج التهيئة والتجهيز المدرجة بأمثلة التهيئة العمرانيّة، إضافة إلى تفشي ظاهرة احتكار الأراضي وخاصة منها القابلة للتعمير مع ارتفاع أسعار الأراضي الصالحة للتعمير والكائنة داخل أمثلة التهيئة العمرانية مما أدى إلى انتقال مواقع الأراضي التي هي في متناول الفئات الاجتماعية وحتى المتوسطة لإقامة مساكنها خارج حدود هذه الأمثلة ودون ترخيص مسبق في البناء.
بالإضافة إلى هذه العراقيل تجدر الإشارة إلى مجموعة أخرى منها أسباب إجرائية وفنيّة تتعلق أساسا بعدم ملائمة أحكام مجلة الجماعات المحليّة الصادرة بالقانون الأساسي عدد29 لسنة 2018 المؤرخ في 15 ماي 2018 مع مقتضيات مجلة التهيئة الترابية والتعمير”1994″ وهو ما يتطلّب التسريع في مراجعتها نضرا لما توليه من أهميّة فائقة في الحدّ من طول إجراءات إعداد ومراجعة أمثلة التهيئة العمرانيّة والمصادقة على ملفات التقسيمات العمرانيّة ورخص البناء نضرا لعدم قدرة المالكين الخواص على انجاز أشغال تهيئة التقسيمات، بالإضافة إلى كثرة الوثائق المكوّنة لملفات التقسيمات العمرانية ورخص البناء.
مما يفسر بطئ التعاطي مع موضوع مراجعة مجلة التعمير وتأخر المصادقة عليها هو كون مراجعتها تتطلب التعاطي مع عدّة ظواهر متعلّقة بالإشكاليات التّنظيميّة والتّدبيريّة النّاتجة أساسا عن محدوديّة أحكام المجلّة الحاليّة في تنظيم المجالين التّرابي والعمرانيّ للبلاد نتج عنها ارتفاع لنسب البناءات الغير منتظمة التي أقيمت في الأصل دون رخص على تخوم الأرياف، فوق أراضٍ فِلاحية أو بالقرب من العاصمة على أطراف المدينة كأحياء التضامن وسيدي حسين والملاسين… ، ثم اتسعت تدريجياً وازداد عدد سكانها بشكل أصبحت خارجة عن سيطرة الدولة.
الجدير بالذكر أنّ الدولة حاولت إدخال هذه الأحياء في مخططات التهيئة العمرانية، لكن دون توفير الحد الأدنى من الخدمات والمرافق، وبلا خطط لتطوير هذه الأحياء السكنية الجديدة، وإدماجها في سياسات التنمية والنهوض الاجتماعي. لتتحوّل فيما بعد هذه البناءات الغير منتظمة إلى قانونيّة لكن بمعزل عن بقيّة الأحياء والتي تحتوى على نسب بطالة مرتفعة والفقر وتزايد لنسب الإجرام نضرا لافتقادها لمقوّمات العيش الكريم.
يمكن أن نستنتج مما سبق أنّ تأخير المصادقة على مجلة التعمير يمثّل مزيدا من الإخلال بالمشهد العمراني المتمثّل في إنشاء تقسيمات غير منظمة دون المصادقة عليها وفق للتشريع الجاري به العمل، مع ارتفاع نسبة البناء الغير منظم التي بلغت في حدود 40%[4] والذي يساهم بشكل كبير في صنع لنشاز لجماليّة المدن كما يمثّل فقدانا للمساحات الخضراء وفضاءات ترفيه وبناءات صديقة للبيئة.
لا يعتبر تأخير المصادقة على مجلّة التعمير إخلالا بالمشهد العمراني فقط بل عائقا أمام التنمية الترابيّة ككل بما تشهده اليوم من توسع حضري على حساب الأراضي الفلاحية وارتفاع نسبة البناء غير المنتظم والذي يمثّل أيضا عائقا أمام تمتع المواطن بالعيش الكريم ورفاهيّة تضمن له جودة حياة جيّدة، وبالرغم من أن مجلة الجماعات المحليّة ودستور
2014 شدّدا على إرساء مسار اللامركزيّة ومشاركة المواطن الفعالة في برامج التهيئة والتعمير بما يتناسق مع متطلبات المدينة التي يعيش فيه ،فإنّ برامج التهيئة والتعمير مقتصرة على مشاركة المواطنين على برنامج الاستثمار السنوي التشاركي[5] الذي شرعت فيه تونس منذ 2014 لتبقى مشاركة المواطنين في برامج التهيئة والتعمير غير واضحة وغير فعّالة في ظلّ تأخّر المصادقة على مجلّة التعمير.
[1] الأمن الإنساني هو مفهوم يقصد به تلبية احتياجات الناس الأساسية حتى يشعروا بالأمان وبأن حاجاتهم الأساسية تتم تلبيتها إما من الجهات الحكومية أو المجتمع المدني أو حتى القطاع الخاص. عادة ما يتم تقسيم المفهوم إلى سبعه محاول: الأمن الغذائي والمائي، العمالة، التعليم، العدالة الاجتماعية، تمكين النساء، المشاركة السياسية، والأمن الصحي.وعادة يتم قياس مدى كفاءة تقديم هذه الخدمات لمعرفة مستوى الأمن الذي يشعر به الأفراد. “معهد غرب أسيا وشمال إفريقيا”
[2]في تونس، يعيش حوالي 8 ملايين شخص من بين 11 مليون ساكن في المدن، أي بنسبة تحضر تقدر ب70 بالمائة.ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 75 بالمائة في أفق 2030، أي 10 ملايين ساكن في المناطق الحضرية من مجموع السكان الذي سيصل إلى 13 مليون.
TAP le 9/juin/2015à 14h17minute paru dans le site de direct info, web manager center, http:// directinfo.webmanagercenter.com,/2015/06/09/tunisie-donnees-chiffrees-dans-le-domaine-de-lamenagementterritorial-et-urbain/
[3] وزارة التجهيز والتهيئة الترابيّة
[4] وزارة التجهيز
[5] برنامج الاستثمار السنوي التشاركي هو وثيقة تضبط المشاريع ذات أولوّيّة المبرمجة من قبل البلديّة والتي تعدّ بطريقة تشاركية منذ 2014 لمدّة سنة واحدة بعد أن كانت تعدّ لمدّة 5 سنوات وتسمي بالبرنامج الاستثمار البلدي بهدف تحسين ظروف عيش المتساكنين والخدمات المسداة لفائدتهم. ويضبط هذا المخطط (بعد تحديد الحاجيات) جملة المشاريع ومواقع انجازها وكلفتها وخطط تمويلاها وأجال انجازها حسب أولويتها ومرد وديتها.