الانتخابات التشريعيّة والبرلمان “الملوّن”..
أفصحت نتائج الانتخابات التشريعيّة التونسيّة الأخيرة (أكتوبر 2019) عن تشكيلة برلمانيّة متداخلة الألوان تتباين درجاتها وتتفاوت دون أن يطغى لون عن آخر. لكنّ تباينها وتداخلها هذا ربّما أجهد بصر المشاهد وهو يتمعّن متسائلا: كيف الوصول إلى التناغم وسط هذا الضجيج اللّونيّ؟ هل من حكمة تولد من رحم هذا اللّغط؟ … يقول آخر أنّ في اختلاف الألوان الحياة والثّراء وأنّه جدير بالتونسيين أن يفخروا بانتخابهم من يريدون وبأنّ الكلّ ممثّل في هذا البرلمان المنتخب في عرس الديمقراطيّة التونسيّة النّاشئة. لكن المشهد آثاره أعمق من شعور الفخر هذا الذي قد يخبو عندما يعود التونسيّ إلى بيته مواجها لوحده تفاقم مشاكله الاقتصاديّة والاجتماعيّة وربّما الصحية والروحية… يهدَّد التونسيّ في أمنه الإنسانيّ (وهو حاصلة أمنه الاقتصاديّ والاجتماعيّ والصحيّ والبيئيّ والروحيّ، وكلّ بُعد آخر يمكن أن يمسّ من طمأنينته كإنسان) إذا ما وجد نفسه حيال نخبة سياسية متباينة المواقف والبرامج، كلّ فريق يصارع من أجل الإدلاء بدلوه وإسماع صوته، والتونسيّ بينهم مصالحه مقطّعة الأوصال.
فما السبب في تشتّت التمثيليّة البرلمانيّة في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة؟ وهل من وسائل يمكن العمل على توفيرها حتّى يتحقّق الاستقرار المؤدّي حتما لاستقرار في شتّى المجالات (اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة وبيئيّة…) ؟
النّظام الانتخابيّ محدّد للمشهد السياسيّ..
يمكن تعريف النّظام الانتخابيّ ببساطة أنّه الآليّة التي تُترجم أو تُحوِّل أصوات المواطنين الناخبين إلى مُمثّلين للشّعب يشاركون في صنع سياسات الدولة. لذا فإنّه مهمّ جدّا الانتباه الدقيق لطريقة صياغة قواعد النّظام الانتخابيّ ونواميسه حرصا على سلامة وشفافيّة سيرورة العمليّة الانتخابية كونها وسيلة تعبير الشعب عن اختياراته الحرّة. تختلف الأنظمة الانتخابيّة في العالم اختلافا يجعل إحصاءها غير ممكن، لكن جدير بالإشارة أنّ هذه الأنظمة تنقسم لعائلتين رئيستين وهما الأنظمة الأغلبيّة والأنظمة النسبيّة. والتفريق بين هاتين العائلتين يكون عبر تذكّر الغايتين المتباينتين للديمقراطيّة وهما: حكم الأغلبيّة وحماية الأقليّة وإيصال صوتها. يؤكّد الباحثون أنّ لكلّ نظام انتخابي إيجابيّات وسلبيّات تقع المُوازنة بينها باعتبار السياق التّاريخيّ والظروف الخاصّة لكلّ بلد.
أمّا النظام الانتخابيّ لتونس الثورة فهو سليل العائلة النسبيّة التي عادة ما لاءمت الفترات الانتقاليّة المعروفة بعدم الاستقرار وبأنّها مرحلة بناء، وهي مرحلة “المخاض” التي شهدتها البلاد بعد أن أسقط الشّعب الثّائر الدولة التسلّطيّة. كان هذا الخيار مؤمّنا وداعما لعمليّة الانتقال الديمقراطيّ عبر مشاركة كلّ الأطراف في العمليّة التأسيسيّة. لكن، إلى أيّ مدى يمكن أن يكون هذا النّظام الانتخابيّ النسبيّ سلبيّا أو إيجابيّا لتونس اليوم بعد مرور نحو تسع سنوات من ثورة الكرامة؟
لا يمكن التّحدّث عن النّظام الانتخابيّ النسبيّ دون التطرّق لـ “العتبة الانتخابيّة” وهي -ببساطة- أقلّ نسبة من أصوات النّاخبين يجب أن يفوز بها حزب سياسي (أو قائمة مستقلّة) في الانتخابات ليفوز بمقعد في المجلس المنتخب. يمكن اعتبار هذه الآليّة الانتخابيّة (العتبة) مؤشّر انسجام التمثيل البرلمانيّ. فكلّما ارتفعت سار النّظام الانتخابيّ النسبيّ نحو تمثيل أغلبيّة واضحة أو الأقليّة الكبرى، فكان التمثيل البرلمانيّ منسجما متناغم الأصوات يوحد فيه فريق أغلبيّ يقود المجلس بطرح برامجه الجديّة دون تعطيل. أمّا إذا صغرت العتبة الانتخابيّة فإنّ نتائج الانتخابات لا تكون حاسمة فالكلّ فائز والكلّ منهزم، بمقدار! في هذه الحالة يكون دخول البرلمان أمرا هيّنا حيث تلج إليه أحزاب صغيرة ليس لها من أصوات الناخبين إلا القليل. وفي غياب المسؤوليّة والوعي السياسيّ تتحوّل ساحة البرلمان الشعبيّ إلى ساحة تجاذبات ومزايدات سياسيّة عوض أن تكون مطبخا لسياسات التنمية.
ولقد كانت “العتبة” موضوع حديث ساخن في المشهد التونسيّ في فترة قريبة عندما طرح النّقاش في مجلس البرلمان المُتخلّي حول مقترح الترفيع في العتبة الانتخابيّة من 3% إلى 5%. تباينت الآراء بين من اعتبروا أنّ الترفيع في العتبة إقصاء للأحزاب المعارضة والأحزاب الصغرى من المشاركة في مجلس نوّاب الشّعب، وبين من رأوه تجنّبا للتشتّت السيّاسيّ وترشيدا للمشهد السياسيّ التونسيّ في مرحلة حرجة تحتاج فيها البلاد للتنمية حتّى يتحقّق أمن التونسيّ وكرامته. ولقد أتى مقترح الترفيع في العتبة اقتداءا بالتجارب الديمقراطيّة حول العالم. فلئن كان الانفجار الحزبيّ الذي تشهده البلاد بعد الثورة ظاهرة طبيعيّة، فإنّه يجب على الأحزاب الصغيرة أيضا أن تتطوّر بشكل طبيعيّ (نحو إفراز قوى) باحثة عن نقاط تلاق تربط بينها فتتشكّل قوى وكتل واضحة تيسّر على التونسيّ فهم المشهد السياسيّ وتعزّز ثقته في الأطراف الفاعلة ذات البرامج الجدّية والواضحة.
يتحدّث باحثون كثيرون على أنّ انخفاض العتبة يؤدّي لأزمة حُكم. ففي هذه الحالة لا يمكن أن يتحصّل الحزب الأوّل من حيث عدد أصوات النّاخبين على أغلبيّة مُريحة تمكّنه من بناء حكومة منسجمة قويّة. بل يجد هذا الحزب نفسه أمام مسؤوليّة وطنيّة صعبة يجب النّجاح فيها من أجل المرور بالبلاد نحو الاستقرار. أمّا الأحزاب الأخرى فإنّها لا ترى نفسها مسؤولة رغم ترشّحها للمجلس، بل تمارس ضغطا على الحزب الأوّل وتقايضه على المشاركة ليدفع تنازلات موجعة حتّى يتحصّل على العدد الكافي من الحلفاء لتشكيل حكومة. قد يكون ذلك أمرا عاديّا وجزءًا من اللّعبة السّياسيّة أن تُناور الأحزاب وفق حساباتها السياسيّة، ولكن الأمر يصبح مُعقّدا في ظلّ أزمات اقتصاديّة واجتماعيّة، وديمقراطيّة ناشئة تتلمّس طريقها. إذ أنّ الديمقراطيّات العريقة والمستقرّة لا تتضرّر كثيرا من عدم القدرة على تشكيل حكومات (بلجيكيا وإيطاليا مثالا). ولكنّ وقوع الأمر ذاته -أي عدم تشكيل حكومة- يكون ذا تداعيات محفوفة بمخاطر عديدة في ظلّ ديمقراطيّة ناشئة بصدد مواصلة مشوار البناء والإصلاح، وترسيخ قيم الحريّة والعدل والكرامة.
إنّ ما أفرزته الانتخابات التشريعيّة الأخيرة في تونس مثال حيّ لما ينتج عن انخفاض العتبة الانتخابيّة حيث تحصّل الحزب الأوّل (حزب حركة النّهضة) على 52 مقعدا من أصل 217 مقعدا وتحصّل الحزب الثّاني (حزب قلب تونس) على 38 مقعدا يليه الحزب الثّالث (التّيار الديمقراطي) بـ 22 مقعدا ثمّ قائمة ائتلاف الكرامة بـ 21 مقعدا . فلم يتحصّل أيّ من الأحزاب على أغلبيّة مريحة خاصّة أنّ عددا كبيرا من الأصوات اندثر في أحزاب وقائمات لم يتحصّل أفرادها على أيّ مقعد في البرلمان. تعيش تونس هذه الفترة على وقع مخاوف من عدم قدرة الحزب الأغلبيّ على تشكيل حكومة خاصّة أنّ أصوات من الأحزاب التي تليه في الترتيب تتوعّد بعدم المشاركة في حكومة يكوّنها هذا الحزب الأوّل. هذه المخاوف وإن تبدّدت بتشكيل حكومة فإنّ مرحلة صعبة تنتظر تونس لأنّ تشتّت المشهد السيّاسيّ وعدم تشكيل أغلبيّة برلمانيّة يؤدّي إلى إضعاف السّلطة. فضعف السّلطة الذي ينتجه التشتّت السياسيّ خطير حيث أنّ هذا الأخير يولّد رؤية غير واضحة ومعالجة غير ناجعة للمشاكل التي تحدّق بالبلاد.
ترشيد المشهد السياسيّ أولويّة أمام الفاعلين الوطنيّين..
لئن تفاوتت قيمة العتبة من بلد لآخر في العالم (فتراوحت من 2% إلى 20%)، فإنّ قيمتها نسبيّة لواقع البلد والحيثيّات التّاريخيّة التي يمرّ بها. ففي تونس بعد الثورة أنتج تلاقح عتبة 3 % مع الانفجار الحزبيّ -الذي تشهده البلاد- إلى طبقة حاكمة بأقليّات متوسّطة وصغيرة تعجز كلّ واحدة منها عن ممارسة السلطة وفرض إرادتها وتمرير برامجها. وقد أدّى هذا العجز إلى إفراغ العمل البرلمانيّ والحكوميّ من نجاعته. لذا فإنّ الترفيع النّسبيّ المتدرّج في العتبة آلية من الآليّات التي يمكن اعتمادها في تونس للتّحصّل على مشهد سياسيّ أكثر استقرار وتماسك وحكومة أكثر نجاعة. كما أنّ هذا الترفيع في العتبة لا يمكن اعتباره إقصاءً للأقليّات الصغرى، إنّما وقاية لها من التمثيل الرمزيّ في المجالس ودعما لتمثيلها الفعليّ حتّى تكون مؤثّرة في المشهد.
إثر الانتخابات التشريعيّة الأخيرة بات ترشيد المشهد السياسيّ مسألة أولويّة مُلحّة يجب العمل عليها من الأطراف الوطنيّة المختلفة. فمن واجب المنظمات الوطنيّة والمجتمع المدنيّ أن يكونوا فاعلا ضاغطا لعلاج المشهد السياسيّ من التشرذم، لأنّ استقرار المشهد السياسيّ مُحدّد لانجاز التنمية وتحقيق كرامة الإنسان المطلبان الرئيسان اللّذان قامت من أجلهما الثورة.
بقلم خولة الغريبي | قسم الإعلام البحثي 2019 ©