هل يشعر التونسيّ بالأمن؟
في شهر جوان الفارط نشب حريق ضخم في مصبّ النفايات المتركّز في منطقة برج شاكير بسيدي حسين (إحدى الضواحي الغربيّة للعاصمة). كان هذا الحريق من أوسع الحرائق التي شهدها المصبّ (امتدّ دخان الغازات على أكثر من 15 كم)، لكنّه لم يكن الأوّل من نوعه. حيث يؤدّي كلّ مرّة اشتعال المواد الحارقة -التي تحتويها النفايات غير المفروزة والمرميّة عشوائيّا- إلى اندلاع الحرائق. يعتبر مصبّ برج شاكير من أكبر مصابّات النفايات في تونس (تبلغ مساحته أكثر من 120 هكتار) وقد بلغ عمره العقدين؛ عقدان من الزّمان -وإلى اليوم- والنفايات المنزليّة -ونفايات أخرى مختلفة- لثمانية وثلاثين بلديّة من بلديّات تونس الكبرى تُرمَى هناكَ ثمّ تُطمَرُ في حُفرٍ عميقة. ومع غياب احترام الدولة للمعايير والتعاريف البيئيّة، تهدّد هذه النفايات المطمورة سلامة المائدة المائيّة متوسّطة العمق والعميقة. بيد أنّ بطن الأرض لم يتّسع لهذي النفايات فأخذت تسابق عنان السّماء؛ جبالا من النفايات يبلغ ارتفاعها عشرات الأمتار! باتت هذه النفايات خطرا يحدق بحياة السكّان فهي قنبلة موقودة يمكن أن تنفجر في وقت غير معلوم وبحجم غير متوقّع. زد على ذلك تسرّب سمومها إلى أعماق الأرض التي في جوفها ينمو غذاء الإنسان ويقبع شرابه.
إنّ تفاقم حجم النفايات -الراجع أساسا لنمط الحياة الاستهلاكيّة- يلحّ على السؤال عن سبل التصرّف في هذي النفايات وسبل حماية المجتمع من آثارها على البيئة. إلّا أنّ الطرح الجدّي لهذه المواضيع مازال غائبا عن نقاشات البرلمان والإعلام وغير موجود في قلب اهتمامات أجهزة الدولة. فمثلا لا يعلم التونسيّ حتّى اليوم إلّا القليل عن مصير نفاياته. فبعد أن ترفعها شاحنات البلديّة تُرمى في مكبّات بعيدة لا تُعلم نواميس اختيار مواقعها، في صورة وجود هذه النواميس! إنّ قلق التونسيّ اليوم يتزايد وهو لا يعلم إلى أيّ مدى تسعى الدولة إلى حلول إجرائيّة وقائيّة تحميه من هذا الوحش المترصّد به؛ النفايات المرميّة في محيطه دون تصرّف ودون تدوير. رغم تحدّث مسؤولين كثيرين في دولة ما قبل وما بعد الثورة عن تدوير النفايات، إلّا أنّه يبقى حديثا غير حامل لنبرة الجديّة فهياكل الدولة لم تتبنّ إلى اليوم استراتيجيّة وطنية واضحة الملامح ومرتّبة الخطوات، مُعلّلة تأخّر إنجازها بالتكلفة المرتفعة لعمليّات تدوير وتثمين النفايات.
في شهر سبتمبر المنقضي عاشت ولاية أريانة المجاورة للعاصمة على وقع فيضان نفذ طوفانه إلى المنازل بعدما امتلأت الشوارع وشلّت الحركة فيها. لم يكن منسوب الأمطار المرتفع جدّا هو المتسبّب الحقيقيّ في هذا الفيضان، إنّما يعود هذا الأخير لبنية تحتيّة مهترئة وشبكات صرف مياه غابت صيانتها. في كلّ مرّة تهطل الأمطار تتعالى الأصوات مندّدة بما يسبّب هذه العواقب الوخيمة، وتتوالى جهود الإنقاذ الاستعجاليّ دون رؤية للحلول الجذريّة. فلا أرقام دالّة عن مدى قدرة ما هو متوفّر من بُنًى تحتيّة وتهيئة عمرانيّة لتحمّل ما قد يقع من تقلّبات مناخيّة، ولا مقترحات حلول يقع مناقشتها والنّظر فيها. وقبل أريانة، شهدت ولاية نابل -في سبتمبر 2018- فيضانا تحوّل إلى كارثة طبيعيّة بسبب الافتقار إلى بُنًى وآليات ناجعة لتجميع وتخزين مياه الأمطار، إضافة إلى عدم تنظيف وصيانة الوديان والسدود. والمفارقة هنا أن نتحدّث عن سوء تصرّف في تخزين هذه الثروة المائيّة وتونس تعاني عاما بعد عام من شحّ الموارد المائيّة بل بات الجفاف شبحا يهدّد حياة التونسيين. ومع أنّ هذه الحقائق معلومة للجميع، لا نرى رؤية استشرافيّة لكيفيّة إيجاد حلول لهذه المفارقة وكيفيّة تحقيق الأمن المائيّ للتونسيّين والأمن البيئيّ عامّة.
إضافة إلى العدد الكبير من المناطق التي مازالت حتّى اليوم في تونس محرومة من وصول الماء الصالح للشرب، فإنّ التونسيّين في مدن عديدة شمالا وجنوبا يشكون – منذ مطلع سنة 2016 (حسب المرصد التونسي للمياه) – من انقطاعات متكرّرة لماء الحنفيّة، كما أنّ ثقتهم قد تراجعت في الماء الذي توفّره الشركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه باعتباره ماءً صالحا للشرب. فالحديث عن عدم صيانة المسالك المائيّة وعن تلوّث المائدة المائيّة بالنفايات قد علا مُزَلزِلًا طمأنينة التونسيّ التي يفترض أن تسهر عليها الدولة بتأمين مقوّمات العيش الكريم لمواطنيها.
إنّ مشكل التصرّف في النفايات ومشكل شحّ الماء غيض من فيض ممّا يحوم بالتونسيّ اليوم من مخاطر. فعلى سبيل المثال وليس على سبيل الحصر نذكر خطر تصحّر الأراضي بما يعنيه من تدهور للتربة وللغطاء النّباتيّ والّذي طال قرابة الثلاث أرباع من التراب الوطنيّ (حسب تقرير لوزارة الفلاحة في 2018). ويرجع ذلك لحدّة التغيّرات المناخيّة والاستغلال المفرط للموارد الطبيعيّة وأهمّها الماء إضافة إلى التوسّع العمرانيّ. إنّ امتداد ظاهرة التصحّر تؤدّي حتما لتراجع الأراضي الزراعيّة وتدهور نوعيّتها والحدّ من انتاجيّتها، مهدّدة بذلك التونسيّ في غذائه. التونسيّ اليوم ليس مهدّدا فقط في غذائه النّباتيّ بل أيضا في غذائه البحريّ؛ فكم مرّة استيقظ التونسيّون -في الآونة الأخيرة- على بحر يلفظ أسماكه ميّتة متأثّرة بنفايات المصانع السّامّة الملقاة في البحر. وكم من المرّات -في السنون الأخيرة- فُجع التونسيون في بحارهم اللازورديّة التي تلوّنت بالأحمر القاني المائل إلى السواد، دون معرفة دقيقة بالعوامل المؤثّرة أو مدى درجة خطورة هذا الأمر على صحّتهم فلا بيانات ولا أرقام رسميّة تصدرها الجهات الحكوميّة المختصّة.
إنّ غياب رؤية واضحة وغياب التقييم والتناول الشفّاف للمشاكل البيئيّة التي يعيشها التونسيّ اليوم لا تجعله يتوقّع حجم الخسائر التي ستخلّفها والتي قد تنفجر في لحظة غير معلومة لتفسد عليه حياته. إنّ التونسيّ الذي خرج إلى الشّارع ثائرا ذات 17 ديسمبر و14 جانفي قد أنهكه غياب مقوّمات العيش الكريم وأوجعه الحرمان من التنمية. لذا فإنّ من أعظم واجبات الدولة اليوم أن تنتبه لما يحقّق التنمية ليس بالعمل المركّز على الاقتصاد فقط، بل عبر العمل من أجل بيئة نظيفة يأمن فيها الإنسان على حياته وعبر الحفاظ على الماء مقوّما من مقوّمات الحياة. وهل يشعر التونسيّ بالطمأنينة والأمن وهو لا يعلم كيف ستتصرّف دولته مع هذي المخاطر المحدّقة بحياته من كلّ حدب وصوب؟! إنّ أمن التونسيّ اليوم مهدّد في مائه وغذائه وصحّته وبيئته… تقابله سياسات لا تفصح عن خططها بدقّة وشفافيّة. إنّها لمُفارقَةٌ أن تظلّ السياسات بعد ثورة الكرامة -التي كان أبرز مطالبها التنمية الشاملة، متعثّرة الإنجاز محتشمة الإرادة. مع العِلم أنّ التنمية حسب الأمم المتّحدة ليست تنمية المجال الاقتصادي، بل تنمية تشمل مختلف المجالات كالاجتماعيّ والصحيّ والنفسيّ والبيئيّ… فأمن الانسان واستقراره يحقّقه مجموع مقاربات ذات أبعاد مختلفة.
مفهوم “الأمن” في تونس: الواقع والمنشود
بقي مشهد التونسيّين وهم يقفون أمام وزارة الدّاخليّة صادحين بـ “ارحل.. ارحل..” مشهدا رمزيّا يستدلّ به على الثورة التونسيّة. لقد هبّ الثائرون الغاضبون إلى مقرّ قوّات الأمن التي كانت الأداة التنفيذية للدولة التسلّطيّة تضرب بحديد كلّ من يعترض طريقها أو لا يوافقها الرأي لتبسط غطرستها. لذا فإنّ التونسيّ لطالما اعتبر قوّات الشرطة “عدوّه” المباشر نيابة عن الدولة التسلّطيّة. لذا فإنّه حريّ بدولة ما بعد الثورة بأن تحرص على تعزيز دور الشرطة الجمهوريّ والمدنيّ والتنمويّ عبر تأهيل وتكوين قوّات الأمن بما يضمن استقرار الدولة والمجتمع. وفي هذا الصّدد تحدّث بعض صنّاع القرار -بُعيدَ الثورة – عن الشرطة البيئيّة والشرطة المائيّة وشرطة الجِوار وهي خطوة ممتازة فيها اعتراف من دولة ما بعد الثورة أنّ أمن التونسيّ يُحقّق بمراعاة أبعاد عدّة. لكنّ المجهودات لا يجب أن تتوقّف عند اقتراح أو بناء كيانات جديدة، إنّما من مسؤوليّة الدولة مراجعة مفاهيم أعمق تتعلّق بالأمن تبني حولها سياساتها. فلئن كانت الدولة في كلّ زمان ومكان محتاجة لأدوات الزجر والرّدع، فإنّ ذلك يجب أن يكون بالتّوازي مع الفرز والبحث داخل الظواهر التي تهدّد استقرار الدولة جسمًا جوهره الإنسان. فكثيرا ما استعملت قوّات الأمن -في الدولة التسلّطية قبل الثورة- لنقيض ما يحمل اسمها؛ ويحصل هذا أساسا عندما لا تجعل الإنسان صميم عملها وسيرورته. إنّ الأمن لا يتحقّق إلّا عند وصول الإنسان إلى حالة من الطمأنينة والقدرة على ممارسة الخيارات المختلفة بحريّة. لذا فإنّ دولة ما بعد الثورة محتاجة لمراجعة مفهوم الأمن بالاقتراب من شواغل النّاس وما يهدّد حياتهم من شحّ في الماء -مصدر الحياة الأوّل- وتدهور في نوعيّة غذائهم كنتيجة لنقص الماء ولتلوّث المحيط أرضا وهواءً، واختلال التوازن الحضريّ للمدن بسبب حركة النزوح نحو المركز نتيجة السياسات المركزيّة المُمارسة من طرف الدولة وما خلّفته من تدهور اقتصاديّ واجتماعيّ وحضريّ وصحيّ… إنّ أمن الإنسان مجموعة من الحلقات المترابطة التي ينتج ضعف إحداها ضعف الأخرى. فالأمن البيئيّ للإنسان يؤثّر مباشرة في أمنه الصحيّ وأمنه الصحيّ يؤثّر في أمنه النفسيّ والاقتصادي ثمّ الاجتماعيّ. لذلك يجب أن تعمل الدولة اليوم على مقاربات الأمن الإنسانيّ بالتّوازي دون اعتبار إحداها ثانويّة أو اعتبار الاهتمام بها ترفا. فالعمل على توفير مواطن الشغل وازدهار الاقتصاد بتركيز المشاريع والمصانع، لا يجب أن يلغي حقّ الإنسان في بيئة نظيفة وماء صالح للشّراب وأرض خصبة تنتج غذائه. إنّ النخب السياسيّة التي تقدّم نفسها اليوم لخدمة الشعب يجب أن تعي أنّ تفعيل مقاربات أمن الإنسان أولويّة. فهذي المقاربات تلمس حاجيات الإنسان بكليّتها؛ ماديّة ومعنويّة، وهي بذلك من خالص الإنسانيّة. إنّ ثورة تونس كانت قولا صادحا واضحا أنّ أمن التونسيّ -بمختلف مقارباته- قد تدهور واختلّ. لقد فقد التونسيّ شعوره بالأمن فثار غير مُبالِ بمخاطر زلزلة النّظام؛ إنّ شعوره بعدم الأمن كان أكبر وأشدّ! إنّ ساسة اليوم يجب أن يكون لهم رؤية شاملة، استراتيجيّة، بعيدة المدى تُعنى بتفعيل أمن التونسيّ (الغذائيّ والمائيّ والصحيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ…) منقّبة عن المحرّكات الدافعة لتحقيقه ومُنتبهة لمعالجة الأسباب المؤثّرة في غيابه. المرشّحون لمناصب صنّاع القرار اليوم مطالبون بإعداد برامج واضحة ترمي إلى تحقيق أمن الإنسان في مختلف مستوياته. هذه البرامج من شأنها أن تصلح علاقة المواطن بالطبقة السياسيّة، فهي -بعملها على أمنه- تؤسّس لثقة ترأب الفجوة بين حاجات النّاس والبرامج السياسيّة التي طالما كانت ترمّم ولا تبني.
” مؤسّسة الياسمين” والعمل من أجل الأمن الإنسانيّ في تونس..
بصفتها مؤسّسة تسخّر التفكير والبحث العلميّ من أجل سياسات عموميّة معبّرة عن احتياجات المجتمع التونسيّ وتوقه إلى الكرامة والعدالة الاجتماعية، ومن أجل سياسات تحقّق الازدهار الاقتصادي والرقيّ العلميّ والثقافيّ والتنمية المستدامة الدامجة والشاملة. تبنّت مؤسّسة الياسمين مشروعا بحثيّا حول سبل تفعيل مقاربات الأمن الانسانيّ في تونس. كرّس فريق المؤسّسة مجهوداته للتحقيق والفرز والاستنتاج فيما يحتاجه التونسيّ كي يكون آمنا منتجا متوازنا في بلد تتحقّق له فيه مطالب الكرامة. تنقّل الفريق لستّ مناطق تونسيّة ليقيم فيها بحثا ميدانيّا ذي منهجيّة علميّة صارمة، فعقد عشرات المقابلات الفرديّة مع المواطنين والنشطاء في المجتمع المدنيّ وهياكل الدولة المحليّة، ونظّم ورشات عمل لمست مئات المواطنين، إضافة إلى تنظيمه عشرات حلقات النقاش المركّزة مع مختلف مكوّنات المجتمع المحليّ. ستنشر المؤسّسة تباعا مقالات تعرّف بمخرجات البحث الميدانيّ والخلاصات العمليّة والتوصيات التي أنتجها الفريق البحثيّ للمؤسّسة مستندا على مقترحات وآراء المجتمع المحليّ الأهليّ والمنظّمات والهياكل المحليّة لكلّ منطقة أجري فيها البحث.
ينفّذ القسم البحثيّ للمؤسّسة “تدبير” مشروع “نحو سبل أكثر فاعليّة لمقاربة الأمن في تونس” بالشراكة مع معهد غرب آسيا وشمال افريقيا وبدعم من المنظّمة العلميّة الهولنديّة للبحث العلميّ، ويقام المشروع في بلدين عربيّين آخرين إضافة إلى تونس وهما لبنان والأردن.