إنّ الحديث عن واقع سليم بلا علل، مزدهر منتج يعني بالضرورة الحديث عن إنسان مكتمِل الكرامة، مستكمَل الحقوق، له من الاستقرار ما يكفي للإنتاج والفعل بحريّة واعية ومسؤولة. لذا فإنّ إصلاح الواقع الوطنيّ اليوم يستوجب بالأساس معالجة حالات عدم الاستقرار الماديّ والمعنويّ الإنسانيّ. وهذه الحالات لا تنفع معها الحلول الجاهزة قصيرة المدى الهدف منها تزيين الشروخ قبل رأبها ومداواة الأرواح المكلومة عبر مناولتها مسكّنات. فالعمل من أجل واقع ذي أرضيّة صلبة تقي الإنسان التهديدات الماديّة والمعنويّة يستوجب بداية؛ المعرفة، فالإدراك ثمّ فهم العلائق بين مختلف المسبّبات والظواهر المنتَجَةِ.
الأمن والأمن الصلب.. مفاهيم غائبة حاضرة..
ارتبط مصطلح “الأمن” في الذهن العربيّ عامّة والتونسيّ خاصّة، من سالف الفترات التاريخيّة حتّى اليوم – بالقوّة التي تمارسها الدولة للسيطرة على المشهد العامّ ولفرض القوانين الصالحة والطالحة في ميزاني العدل والإنسانيّة. حيث يعرف أعوان الأمن بـ”الحاكم” ويمثّلون في ذهن التونسيّ يد النّظام القويّة التي من خلالها يبسط سيطرته وجبروته – خاصّة في الأنظمة الاستبداديّة التي مرّت بالبلاد قبل ثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي. فالتونسيّ – بسبب نظام الدولة التسلّطيّة – قُرن عنده الأمن بالسلطة فلم يحضر في ذهنه إلّا مفهوم الأمن الصلب المتعلّق بالتهديدات الماديّة والمباشرة ذات الطابع التقليديّ العسكريّ، وغيِّبت عنه مفاهيم أخرى للأمن. فالأمن في اللّغة هو انتفاء الخوف والطمأنينة والاستقرار؛ بما معناه تحرّر الإنسان من شتّى أنواع المخاوف والتهديدات الماديّة منها والمعنويّة. هذا المعنى المضيء يجب العمل على إيقاظه وترسيخه في عقول المواطنين عامّة وصنّاع القرار خاصّة حتّى يتسنّى لهم الدفع نحو سَنّ وتطبيق الإجراءات اللّازمة كي يرقى الأمن من رادع للتّهديدات عبر استعمال القوّة والقوّة المفرطة في أحيان كثيرة، إلى مُعالج حقيقيّ عبر البحث والفرز والتحليل في مختلف أبعاد هذه التهديدات المتعّلقة بالإنسان.
الأمن الإنسانيّ.. تحرّر الإنسان ودواء لعلل الواقع..
هل يمكن الحديث عن إنسان فاعل يُساهم في بناء وطنه بحُبٍّ وتفانِ وهو إنسان خائف من الفقر حائر أمام المرض، لا شغل قارّ ولا دخل محترم له؟ هل يسمح بالكلام عن إنسان متوازن الشخصيّة، مطمئنّ، متأمّل متفكّر وهو يسير غير آمن على ذاته من بذيء القول ووحشيّة الفعل؟ كيف وَصْفُ الإنسان بالكائن الفائح عبَقه على محيطه وهو كائن مقموع مُستبعد عن الفعل بتنوّع دوائره (اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة…)؟ هل يمكن تصوّر إنسان معتزّ بأرضه والباب بينه وبين تاريخ الأجداد مغلق؛ غريبًا منقطعًا عن تاريخه الأصيل؟
هذا الإنسان بروحه وجسده خليط من الحاجات الماديّة والحاجات المعنويّة الروحيّة، كما أنّ تفاعله مع محيطه المتأثّر بالزّمن والعصر يمكن أن ينتج حاجات ذات أبعاد مزدوجة. فإنسان اليوم مثلا يعاني من تلوّث البيئة التّي من شأنها أن تؤثّر على صحّته البدنيّة والنفسيّة. وإنسان اليوم لا يكاد يستغني عن التكنولوجيا الحديثة التي تغزو تفاصيل حياته مستبيحة خصوصيّتها في أحيان كثيرة، كما أنّها قد تُربك سكينته وتحفّز أوجاع رأسه وشعوره بالأرق.
إنّ فهم وإدراك حاجات الإنسان الماديّة والروحيّة والمزدوجة خطوة مهمّة نحو تحليقه في آفاق واسعة من الفعل المصلح المبدع بعد تحريره من المخاوف والتهديدات.
مذ ما يزيد العقدين صدر تقرير عن الأمم المتّحدّة ليعرّف فكرة الأمن الإنساني التي فكّكت مفهوم الأمن لسبع محاور وهي كالآتي: الأمن الغذائيّ والأمن الصحيّ والأمن الاقتصاديّ والأمن المجتمعيّ والأمن الفرديّ والأمن البيئيّ والأمن السياسيّ. هذه المحاور السبعة تفرّعت عبر سلّم التّاريخ الزمنيّ وعبر حيّز المكان الجغرافيّ لتغطّي حاجيات الإنسان المختلفة كالرّوحيّ والفكريّ.
هذا الإنسان الآمن على مختلف المستويات وفي شتّى الأبعاد، الإنسان الآمن بمعنى التحرّر من كلّ أشكال التهديدات الماديّة والمعنويّة إنسانٌ مطمئن ّمشارك في الفعل مؤثّر في حركة محيطه.
فكيف يمكن تفعيل مقاربات الأمن اقتصاديّة واجتماعيّة وبيئيّة وفرديّة ومجتمعيّة و …، لتتحقّق هذه النقلة؛ من إنسان مُستبعَدٍ مُهمّش مقموع ناقم إلى مشارك شعوره بالانتماء يعزّز عزمه على الفعل البنّاء؟
الانتباه لهذه المعادلة ودراسة مختلف عناصرها واجب أمام من يريدون الوصول لمقترحات إصلاحيّة فعّالة تنقذ واقع البلاد من شتّى الظواهر المدمّرة كالتطرّف العنيف والفقر والتهميش وانتشار الأمراض والتبعيّة الاقتصاديّة وغيرهم من الظواهر التّي ينتجها حتما تدهور مقاربات الأمن الإنسانيّ في بعض مستوياتها أو في جلّها.
إنّ “تونس الثورة” اليوم بحاجة لوعي جمعيّ يدفع إلى تفعيل مقاربات الأمن الإنسانيّ (الأمن الغذائيّ، الأمن السياسيّ، الأمن الروحيّ، الأمن البيئيّ، الأمن المجتمعيّ، الأمن الشخصيّ، …) عبر وضع وتبنّي مقترحات إصلاحيّة وبناء برامج استراتيجيّة ذات رؤية بعيدة الأمد. هذا ما يضمن الذّهاب في طريق تحرير الإنسان من مخاوفه المختلفة المتداخلة، بعد أن تحرّر إثر ثورته المجيدة من حاكم دكتاتور متسلّط.
إنّ أمن التونسيّ – على جميع الأصعدة – تحدّ كبير وأولوية أمام الطبقة السياسيّة الفاعلة اليوم، وهو ما يضمنه العمل على مقاربات الأمن الإنسانيّ والتّعامل معها بديناميكيّة ومرونة.