الرئيسية / الحوكمة / الحوكمة المحلية / الشباب هو الأمل – تجربة مشارك بمقهى شبابي بمشروع Youth Act

الشباب هو الأمل – تجربة مشارك بمقهى شبابي بمشروع Youth Act

مقال لحاتم دمّق

مقال لحاتم دمّق

 دعاني أحد الأصدقاء لأحضر في “مقهى الشباب” الذي تنظمه مؤسسة الياسمين للبحث و الاتصال يوم الأحد 17 جانفي 2016 بدار الدلاّجي في سيدي بوسعيد فلبيّت الدعوة رغم أنني لست واثقا من أنني لا أزال أنتمي لهذه الفئة العمرية. و”مقاهي الشباب”، حسبما أفهمني صاحب الدعوة، هي عبارة على فضاء يلتقي فيه أبناء وبنات منطقة ما تتراوح أعمارهم بين 18 و 30 سنة من مختلف الشرائح الاجتماعية ليعبّروا فيه عن شواغلهم وآرائهم إزاء الأوضاع في البلاد عموما ومنطقتهم خصوصا. كما علمتُ أنّ مؤسسة الياسمين كانت قد دأبت على تنظيم هذا النشاط في إطار مشروعها “الشباب فاعل” (Youth Act) بحيث استفاد منه زهاء الست مائة شاب و شابة من مختلف أحياء تونس الكبرى (التضامن، المنيهلة، دوار هيشر، وادي الليل، منوبة، الخ).

ولعلّ أشدّ ما دفعني للحضور هو تزامن المناسبة مع عيد الثورة الخامس. هذه الثورة التي لئن كان الشباب وراء اندلاعها وبلوغها ذروتها، فالظاهر أنها قد تنكّرت له وقلبت له ظهر المجنّ، فلم يكد يجني منها شيئا يُلمس لحدّ هذه اللحظة. ولكني لطالما تساءلتُ: هل ظلمته الثورة في ذلك؟ هل جارت عليه حقا، أم أنّه هو من بادرها بالجفاء؟

وصلتُ إلى مقهى دار الدلاجي في العاشرة والنصف صباحا، موعد انطلاق النشاط، ولم أكن حقيقة أتوقّع حضور عدد كبير من الشباب نظرا للأمطار الغزيرة والبرد الشديد الذي رافق ذلك اليوم، ولكني اندهشت لما رأيتهم يتوافدون جماعات ووحدانا حتى ناهز عددهم الثلاثين. انطلقت الحصّة بعد الترحيب بالحضور بتعريف موجز لمؤسسة الياسمين ومشروع “الشباب فاعل” من طرف ميسّر الحلقة الشابّ “بلال منّاعي” قبل أن يعطي الفرصة للحضور لكي يعرّفوا بأنفسهم والأحياء التي جاؤوا منها (جميعها تنتمي لولاية منوبة). بعد ذلك، استهلّ بلال النقاش بطرح سؤال بسيط على المجموعة: ما هو شعوركم إزاء منطقتكم، حيّكم؟ هل تشعرون بالاعتزاز والانتماء، أم تفكّرون بالمغادرة؟ إجابات الشباب كانت مثيرة للاهتمام: لم يتردّدوا لحظة في التأكيد على اعتزازهم الشديد بمناطقهم وفخرهم بالانتماء لها، ولكنّ ذلك كان في الغالب مشفوعا بالتعبير عن سخط كبير وعدم رضا عن سوء الأوضاع وتدنّي مستوى الخدمات في تلك المناطق. هذه الأجوبة جاءت متناسقة مع نتائج استبيان أجراه فريق العمل بالمؤسسة مع شباب ولاية منوبة والتي تشير، كما بيّن بلال لاحقا، إلى أن 83 بالمائة من شباب المنطقة المستجوبين يعتزون بانتمائهم لأحيائهم.

طارق بن حسين

طارق بن حسين

وهنا تدخّل السيد “طارق حسين” – وهو مدرّب وخبير مختصّ في شؤون المجتمع المدني كان  أيضا حاضرا بالمقهى- ليفسّر ثنائية “الاعتزاز و الرضا”، إذ كلّما زاد منسوب الاعتزاز.
يتذمّر الشاب “زيكو” مثلا من قلّة الموظفين القائمين على خدمة المواطنين في شبابيك الإدارة العمومية بشكل لا يتفق مع الطوابير الطويلة للمنتظرين، فضلا عن التعطل المستمرّ للشبكة (طاح الريزو) وهو ما يعطّل مصالح المواطنين في كثير من الأحيان. ويتندّر الشاب “محمّد” بأنّ ضوء الإنارة العمومية في حيّه يشتغل بانتظام مبهر؛ المشكلة الوحيدة أنّه يُنير بالنهار ويَنطفئ بالليل! من جهة أخرى، تشتكي الآنسة “أماني المثلوثي” وهي طالبة بالمعهد العالي للغات التطبيقية والإعلامية وأصيلة مدينة وادي الليل من تهميش الحياة الثقافية بالجهة و تستدلّ على ذلك بنقص شديد في الكتب بالمكتبة العمومية، و إن وُجدت فهي في الغالب موجّهة للأطفال، إلى جانب غياب الأنشطة الشبابية بدور الشباب والثقافة التي تجدها مغلقة في كثير من الأحيان، ولا تَسَلْ عن مدى تجاوب المسؤولين عليها مع مبادرات الشباب المحلّيين لاستغلال الفضاءات العمومية في أنشطة ثقافية إذ غالبا ما تقابل بالرفض ولأسباب واهية.لدى الشخص بمنطقته كلما تراجع منسوب الرضا، لأنّه يطمح دائما لأن تكون منطقته/حيّه/وطنه أفضل ممّا هي عليه، بل يريد أن يراها في أجمل حال. لقد كان الشباب يتحدّثون بحرقة شديدة عن المشاكل في مناطقهم، وهو ما يعكس غيرتهم الشديدة عليها. وهذا في الواقع أدهشني، نظرا للاعتقاد السائد بأنّ الشباب يعوزهم الاحساس بالانتماء لمناطقهم و لا يفكّرون إلا في الهجرة الغير شرعية “الحرقة” أو السفر للبلدان الثرية في أوروبا والخليج. ولكنّ ما أدهشني أكثر هو التوصيف الدقيق من طرف الشباب لمشاكل مناطقهم ممّا يدلّ على اطلاع واسع وعلم بالتحديات والصعوبات والإشكالات التي ينبغي معالجتها. هذه المشاكل تراوحت بين سوء الأوضاع البيئية، ترهّل البنية التحتيّة كالطرقات والإنارة، الانتصاب الفوضوي، العنف وتعاطي الزطلة في بعض الأحياء، إلى جانب تدنّي الخدمات الإدارية.

سندس البجاوي، طالبة ماجستير علوم التراث بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس

سندس البجاوي، طالبة ماجستير علوم التراث بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس

 أماني المثلوثي، طالبة بالمعهد العالي للغات التطبيقية والإعلامية

أماني المثلوثي، طالبة بالمعهد العالي للغات التطبيقية والإعلامية

أمّا بالنسبة للآنسة سندس البجاوي، وهي طالبة ماجستير علوم التراث بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، فهي ترى أنّ المشكل أعمق من ذلك ويتجاوز الأسباب المادّية ليتمظهر في أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم وعقلية مترسّبة ستحتاج إلى مجهود حقيقي قد يمتد لسنوات من أجل تغييرها. وفي هذا السياق، استشهدت بطرفة حصلت لها عندما كانت تشرف على نشاط ثقافي تطوّعي بإحدى دور الشباب من معتمدية طبربة تقوم على تزيين بعض الجدران بلوحات زاهية يبدعها شباب المنطقة. أثناء القيام بذلك النشاط، التفّ بها أطفال الحيّ يتجاذبون معها أطراف الحديث. طبعا كانت سندس قد قامت بجميع الإجراءات القانونية وأخذت التصاريح اللازمة لتنظيم هذا النشاط، لذلك جاء عدد من رجال الشرطة لتأمين النشاط والتأكّد من سلامة المشاركين. في تلك اللحظة، عندما رأى الأطفال رجال الأمن مقبلين، أطلقوا العنان لأرجلهم فارّين وهم يهتفون “الحاكم جا، الحاكم جا“! تقول سندس أن هؤلاء الأطفال يمثلون جيلا بأكمله يحتاج عملا طويلا ليفهم أن الشرطة في خدمة الشعب وأنّ الأوْلى أن يكون تواجدها مبعثا على الأمن والاطمئنان، لا الخوف والقلق.

إثر ذلك، انتقل “بلال” إلى السؤال الموالي، وهو “هل من الممكن حلّ هذه المشاكل؟ وكيف؟” وهنا كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي… لقد انبهرت بالمستوى الرفيع الذي بلغه النقاش في هذه المرحلة، وبالحلول الواقعية والمجدِّدة التي كان يعرضها الشباب. بداية، لم يتردّد أحد منهم في الجزم بأن التغيير ممكن وأن الإصلاح في المتناول. قلت في نفسي: تلك هي طبيعة الشباب: الإغراق في المثالية والأحلام الوردية. ولكنّ ذلك الانطباع سرعان ما تبدّد على وقع المقترحات العمليّة التي انطلق الشباب في بسطها وتفسيرها. ولئن تعدّدت الاقتراحات وتنوّعت، فإنّها جميعا ارتكزت على روح المسؤولية والمبادرة لدى المواطن ودوره المحوري في صنع التغيير. تقول الآنسة “آمنة شعباني“، وهي طالبة بالمعهد العالي للعلوم البيوتكنولوجية التطبيقية بتونس، أنّ كلّ مشكلة لديها حلّ، والبداية تكون بأن يضرب المواطن المثل ويلعب دور الريادة في محيطه، فيكون هو أول من يلتزم بإشارات المرور، وأوّل من يضع القمامة في الحاويات، وأوّل من يحترم الصفّ، ويترفّع عن الخصومات، ويرفق بأخيه المواطن في كلّ الحالات. كما تؤكّد الآنسة “وئام الرياحي“، وهي طالبة بالمدرسة العليا لعلوم وتقنيات الصحة بباب سعدون، على أهمّيّة روح المبادرة وتقول: “كيف يمكنك التذمّر من أوضاع البلد وأنت لم تشارك في الانتخاب؟ اُخرج من بيتك وشارك وغيِّر، و لنَتَخَلَّ عن عقلية “أخطا راسي واضرب” و لنَنْبِذ حتميّة الفشل واستحالة التغيير

آمنة شعباني، طالبة بالمعهد العالي للعلوم البيوتكنولوجية التطبيقية

آمنة شعباني، طالبة بالمعهد العالي للعلوم البيوتكنولوجية التطبيقية

وئام الرياحي، طالبة بالمدرسة العليا لعلوم وتقنيات الصحة

وئام الرياحي، طالبة بالمدرسة العليا لعلوم وتقنيات الصحة

الشباب تحدّثوا بعد ذلك عن وضع آليات رقابة على المسؤولين لتقييم أدائهم وضمان المساءلة، ووضع آليات تمكّن المواطن من الحصول على المعلومة من أجل ضمان الشفافية، كما تحدّثوا أيضا عن أهمّيّة المؤسسات الأهلية والجمعيّات ودور العمل التطوّعي والنشاط بالمجتمع المدني في إحداث تغيير إيجابي على أرض الواقع والتحسيس على نطاق محلّي من أجل تغيير العقليات والسّلوكات نحو الأفضل. لقد كنت أتابع مداخلات الشباب وأتفرّس في وجوههم المعبِّرَة وبداخلي مشاعر متضاربة… فمن جهة يغمرني السرور و الفخر بهذا الشباب التونسي الواعي والمتحمّس.. ولكن من جهة أخرى تراودني حسرة وحزن لعدم استغلال هذه الطاقات وتوظيفها لخدمة المجتمع..

النقاش قاد الحضور في النهاية للخوض في الحوكمة المحلية، وقام “بلال” في هذا الصدد بعرض شريط فيديو قصير يفسّر دور البلدية، مواردها، ومختلف المسؤوليات المنوطة بعهدتها. “بلال” بيّن إثر ذلك أن جميع الدراسات والإحصاءات تشير إلى مشاركة ضعيفة جدا للشباب في الحكم المحلي، من ذلك غيابهم اللافت عن الجلسات التمهيدية والجلسة العامّة للبلدية، و تساءل عن سرّ ذلك. الشباب عبّروا مجدّدا عن أزمة الثقة بينهم وبين المسؤولين، و بعضهم تساءل عن جدوى الحضور في مثل تلك الاجتماعات من الأساس. هنا تدخّل السيد “طارق حسين” من جديد ليبيّن أمرا في غاية البساطة: نتيجة عدم المشاركة محسومة، وهي عدم التغيير. أمّا المشاركة فهي قد تفضي إلى تحقيق تغيير ولو جزئي. كما لفتَ انتباه الحضور إلى أن القانون اليوم في صالحهم حيث أنّ مبادئ التشاركية واللامركزية الواردة في الباب السابع من دستور الجمهورية التونسية تضمن حقّهم في المشاركة وتلزم البلديات والجماعات المحلية باعتماد المقاربة التشاركية والانفتاح على المواطن أكثر من أي وقت مضى. ولئن لم يكن الشباب الحاضر في الجلسة مطّلعين بشكل معمّق على مختلف هذه المفاهيم وتطبيقاتها، فإنّهم أبدوْا استعدادا لتلقّي تكوين يعزّز معارفهم ويؤهّلهم للانخراط بشكل أكبر في الشأن المحلّي. “بلال“، الذي كان يتفاعل مع الحضور طوال الحصة بأسلوبه الشيّق الذي لا يعدم طرافة، ختم الجلسة بسؤال أخير: “هل أنتم متفائلون لمستقبل تونس؟” إجابة الشباب كانت قاطعة بالإيجاب.. ودون أن أشعر، وجدتُ نفسي أهزّ رأسي معهم موافقا.. نعم، هناك أمل.. أمل في مستقبل مشرق لتونس.. أمل يتجسّد في شبّانها و شابّاتها.. أمل في أنّ هذه السواعد الفتيّة ستبني لهذا الوطن غدا أفضل.. حقّا، لم يخطئ ميخائيل نعيمة عندما قال: “الشباب ثروة وثورة“.. ولعمري أصاب حينما قال: ” ليس الشباب في حاجة إلى من يوجهه، فالقوى الهائلة التي يزخر بها كيانه هي الكفيلة بتوجيهه في السبيل المعدة له. وإنما حاجة الشاب إلى من يحميه من موجهيه الذين يحاولون أن يكمموا فاه، ويكبلوا يديه ورجليه ويسكبوا الماء البارد على الحماسة المتأججة في صدره، ويزرعوا الذعر والخنوع في فكره وقلبه. أولئك في الغالب هم رجال السياسة، أو رجال الدين والآباء والأمهات والمعلمون والمعلمات الذين يعيشون في قلق دائم من ثورة الشباب على ما رث من تقاليدهم، وما بلي من أساليبهم، وما تعفن من معتقداتهم، ولذلك لا ينفكون يقيمون السدود والحواجز في وجه تفتح الشباب وانطلاقه. وهم إذ يفعلون ذلك لا يدركون إلى أي حد يجرمون بحق أنفسهم وحق الشباب“.

غادرت “المقهى الشبابي” وقد وجدتُ إجابة على السؤال الذي طالما راودني.. كلا، ليست الثورة هي من تنكّرت لشبانها.. وليس الشباب هو من اختار العزوف عنها ومجافاتها.. إنما هي طبقة سياسية لم تؤمن بقدرة الشباب ووعيه، ولم تزل تشكّ في مقدرته على القيادة والريادة، و تأبى أن تمنحه الفرصة و تمرّر له المسؤولية. ولكن آن لهذا الشباب أن يأخذ ما له بحقّ، وآن له أن يحدّد مصيره بيده لا أن يحدّده له آخرون، وآن له أن يأخذ هذا البلد إلى حيث يجب أن يكون. الشباب… هم الأمل.

صورة جماعية للمشاركين والمنظمين للمقهى

صورة جماعية للمشاركين والمنظمين للمقهى

عن Équipe média

تعليق واحد

  1. سندس البجاوي

    شكرا أستاذ حاتم على هذا المقال الرائع، في الحقيقة في ما يخص موضوع “الطرفة” مع أنّي أعتبرها “مأساوية بعض الشيئ ” قد حصلت لي في منطقة دوار هيشر التابعة لولاية منوبة وليس بمعتمدية طبربة، و هنا المشكلة كبيرة من حيث تزعزع الثقة بين رجال الأمن و المواطنين و ترسيخ فكرة الخوف و القلق من رجال الشرطة في أذهان الأطفال الصغار ،لذلك أجدد ندائي لشباب هذه المنطقة للتضحية و النهوض فكريا و ثقافيا بهؤلاء الأطفال الذين يمثلون جيل جديد و فئة من المجتمع،حيث تكمن هذه التضحية في إحداث نوادي ثقافية (متعددة الأنشطة) في دور الشباب إن و جد أو المدارس و المعاهد إن أمكن ذلك، مع الحرص على السعي للنهوض بهؤلاء الأطفال بأي طريقة كانت.
    و أجدد شكري لجمعية “Jasmine foundation” على توفير فضاء للتواصل بين الشباب للتعبير عن آرائهم و تقاسم شواغلهم و همومهم و التناقش في مشاكل مناطقهم ثم التشاور و العمل على إيجاد الحلول لها.
    و الخروج بنتيجة لهذا البرنامج و هي “شباب فاعل”في “مجتمع فاعل”…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى