مؤسسة الياسمين – منذ أن أقرّ الدستور التونسي الجديد نموذج السلطة المحلية كأحد أهم سمات نظام الحكم في المرحلة المقبلة، تعدّدت الندوات والدراسات التي تُعنى بتصوّر الكيفية المثلى لتطبيق مبادئ اللامركزية والتشاركية على أرض الواقع، خاصّة وأنّ الفصل 131 من الدستور رسم الخطوط العريضة دون الخوض في التفاصيل و آليات التنفيذ. في هذا المقال الموجز، نحاول بداية التعريف باقتضاب بمفهوم الديمقراطية التشاركية وأهمّيّتها، ثمّ نتعرّض إلى بعض آلياتها الأوسع انتشارا في العالم مع محاولة لتقييم فرص اعتمادها في السياق التونسي.
مفهوم وتاريخية الديمقراطية التشاركية:
تمثل الديمقراطية التشاركية جملة من الآليات والإجراءات التي تمكّن من إشراك المجتمع المدني والمواطنين عموما في صنع السياسات العامة وتمتين الدور الذي يلعبونه في اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير الشأن العام عن طريق التفاعل المباشر مع السلطات القائمة، سواء على الصعيد الوطني أو –وخاصّة- على الصعيد المحلّي. ولا تلغي الديمقراطية التشاركية الديمقراطية التمثيلية كليا، ولكنها تسعى لتتجاوز أوجه القصور والعجز فيها بمحاولة حل المشاكل عن قرب، وضمان انخراط الجميع، وتطوير التدبير المحلي والوطني عن طريق التكامل بين الديمقراطيتين، لاسيما و أن العديد من التحركات الاجتماعية (نسائية، بيئية، تنموية) لم تعد تجد في الديمقراطية التمثيلية سبلا للتعبير عن حاجياتها ومطالبها و إيجاد حلول لها.
ورغم أن جذور الديموقراطية التشاركية ضاربة في عمق التاريخ، فإنّها في العصر الحديث لم تظهر إلا في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت أهم ما يدعو إليه اليسار الأمريكي لمواجهة الفقر والتهميش. و في أوربا الغربية، تنامت الدعوات تدريجيا إلى أهمية اعتماد الديموقراطية التشاركية وصولا إلى مؤتمر الاتحاد الأوربي حول الديمقراطية التشاركية المنعقد بالعاصمة البلجيكية بتاريخ 8 و 9 مارس 2004، حيت تم التأكيد على “أن الديمقراطية التشاركية هي الحل [لأزمة الديمقراطية الأوربية] وقيمة مضافة لدول الاتحاد الأوربي” و “يجب على الديمقراطية التشاركية ان تضخ دما جديدا للديمقراطية لتكمل الديمقراطية التمثيلية وتنمية التعاون مع باقي الشركاء الاجتماعيين”.
بعض آليات الديمقراطية التشاركية:
تتعدّد الآليات التي تجسّد مبدأ المشاركة في صنع القرار وتختلف من حيث درجة تأثيرها وقاعدة المشاركة فيها. نتعرّض فيما يلي لبعض الآليات الأوسع انتشارا ومدى ملاءمتها للسياق التونسي.
الاستفتاء الشعبي:
يتميّز الاستفتاء الشعبي بكونه يضمن حق تشريك جميع المواطنين (المؤهّلين للإدلاء بأصواتهم) بدون استثناء، و بالتالي فإن قاعدة المشاركة فيه هي الأوسع على الإطلاق. ولكنّه في المقابل مكلف جدّا للدولة من الناحية التنظيمية، لذلك لا يتمّ اللجوء إليه إلا نادرا وفي قضايا مصيرية (الانفصال عن سلطة دولة مركزية، تعديل في الدستور، الخ). من جهة أخرى، لا يتيح الاستفتاء هامشا كبيرا للتفاعل، فالمواطن عادة حينما يدلي بصوته إمّا يقرّ أو يرفض (نعم أو لا) الإجراء موضوع الاستفتاء دون أن تكون له القدرة على تقديم مقترحات أو تعديلات إضافية.
في تونس، اعتمد النظام السابق آلية الاستفتاء لإقرار و إضفاء الشرعية على تعديلات دستورية تخدم مصلحته بشكل صارخ ولتحقيق مكاسب ما كان له أن يبلغها بشكل آخر. أما الآن، و في سياق تفعيل اللامركزية وتمكين السلطة المحلية، تبرز فرص لاعتماد آلية الاستفتاء على نطاق بلدي، جهوي أو إقليمي وهي تجربة تمّ اعتمادها في دول أخرى متقدّمة مثل إسبانيا ونالت استحسانا كبيرا.
المبادرة الشعبية:
المبادرة الشعبية هي آلية اقتراح متاحة لأي مواطن يستطيع من خلالها الوصول بمقترحه إلى مرحلة الاستفتاء وذلك بجمع عدد معيّن من التوقيعات. ففي سويسرا مثلا، من أجل عرض مبادرة على التصويت الشعبي، يتطلب الأمر تجميع 100 ألف توقيع سليم وموثق من طرف الناخبين لفائدتها في ظرف لا يتجاوز 18 شهرا، وقد بدأ العمل بنظام المبادرات الشعبية في سويسرا كوسيلة سياسية منذ عام 1891. وإذا تمّ إقرار مضمون المبادرة من خلال الاستفتاء، فإنّها تصبح نافذة و مضمّنة في الدستور.
هذه الآلية لا تضمن مشاركة شعبية واسعة فحسب، بل تكرّس أيضا روح المبادرة لدى المواطنين فيعرضون على التصويت المسائل التي يرونها مهمة بالنسبة لهم والتي قد لا تكون حاضرة على أجندات الأحزاب السياسية. في المقابل، قد تسبّب هذه الآلية إشكالا عندما يتمّ إقرار مبادرات يتعارض مضمونها مع قوانين أو مبادئ دستورية سابقة أو اتفاقات دولية، فمثلا قررت المحكمةالعلياالفدرالية السويسرية فيشهرأكتوبر 2012 عدمتطبيقمانصّتعليهالمبادرةالشعبيةالقاضيةبالطردالآليللمُجرمينالأجانب.
في تونس قد يشقّ اعتماد هذه الآلية نظرا لكلفة تنظيم تصويت شعبي بالطرق التقليدية الراهنة ولكن تبقى المسألة مطروحة في صورة إيجاد تقنيات حديثة أقل كلفة.
تقديم العرائض:
هي آلية تتيح لأي مواطن تقديم عريضة إلى السلطات المختصة، كالبرلمان مثلا، من أجل عرض مشروع تعديل أو اقتراح قانون أو أي مبادرة أخرى. وهي تقنية قديمة عرفها النظام الملكي البريطاني منذ سنة 1215، حيث أقرّ إعلان الميثاق الأعظم حق تقديم العرائض للملك بما يمكّن أي فرد من عرض مظلمته (الشخصية) في ديوان الملك دون أن يتعرّض له أحد. تطوّر هذا المبدأ ليصبح سنة 1787 أساسا لحق تقديم العرائض ذات طابع عام أي المواضيع التي تهمّ المصلحة العامة كإلغاء العبودية وذلك لسدّ الشغور التشريعي.
في فرنسا نصدستور 1793 فيالبابالأولعلىأن : للمواطنينالحريةبأنيراسلواالىالسلطاتالمؤسسةعرائضموقعةبشكلفردي؛ أما على مستوى المنظمات الدولية، فقد نصميثاقالاممالمتحدةفيالمادة 87 وفيالمادة 24 و 32 من نظام منظمة العمل الدولية،وفي البروتكول الاختياري الملحق بالميثاقا لدوليالخاص بالحقوق المدنية والسياسيةعلى حق تقديم العرائض من المادة 1 الى المادة 5.
على الصعيد العربي، فقد أقر الدستورالمغربيلسنة 2011 هذا الحق في الفصل 15: “للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق”.
للأسف لم يتمّ تضمين هذا الحق في الدستور التونسي لسنة 2014، ولكن يبقى المجال مفتوحا لتواصل المجتمع المدني مع مجلس نواب الشعب من خلال وسائل أخرى كعرض الورقات السياسية وغيرها.
الميزانية التشاركية:
الميزانية أو الموازنة التشاركية هي عملية من المشاورة الديمقراطية يقرر من خلالها الأشخاص العاديون كيفية تخصيص جزء من الميزانية البلدية أوالعامة. وتعتبر هذه الآلية بامتياز أحد أفضل ممارسات الحوكمة التشاركية نظرا لأثرها الملموس على واقع المواطنين لا سيّما على المستوى المحلّي وتحفيز مشاركتهم في الشأن العام بشكل مباشر. بل إنها أدت في بعض الحالات إلى زيادة استعداد الأشخاص لدفع الضرائب.
تمت أول عملية كاملة للموازنة التشاركية في مدينة بورتوأليغري، في البرازيل، بدءًا من عام 1989، ثمّ انتشرت في المئات من مدن أمريكااللاتينية والعشرات من المدن في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكاالشمالية. والآن يتم تقديرما يزيدعن 1500 بلدية بدأت باتباع نظام الموازنة التشاركية.
في تونس، بدأت بعض البلديات باعتماد هذه الآلية مثل بلديّة المرسى وصيادة ومنزل بورقيبة لتلاقي نجاحا وإقبالا متفاوتين و تبقى في إطار التجارب النموذجية التي لا تزال في حاجة للتطوير والتعميم.
الديموقراطية التشاركية واستعمال التكنولوجيات الحديثة:
مع ظهور الانترنت، شبكات التواصل الاجتماعي و وسائل الاتصال الحديثة، برزت العديد من المبادرات التي تعتمد على هذه التقنيات الحديثة من أجل تكريس مبادئ التشاركية. ولا غرو، فإنّ نسبة النفاذ إلى الانترنت في الدول المتقدمة و العديد من الدول النامية مرتفعة جدّا، وهو ما يتيح لأيّ شخص الإدلاء برأيه من غرفته أو مكتبه الخاص بكل اريحية. من أجل ذلك انتشرت مؤخرا ظاهرة العرائض الالكترونية في العالم و قد تمّ أيضا اعتماد آلية التصويت الالكتروني عن بعد في بعض الدول. في تونس، يبدو المناخ ملائما و مشجعا على اعتماد هذه التقنيات نظرا لإقبال الشباب الكثيف عليها وتوفّر البنية الرقمية المناسبة لها.
الخلاصة:
انطلقت الثورة في تونس كحراك احتجاجي على سياسة التهميش و الإقصاء وللمطالبة بالحق في الكرامة والحرية، ولا تزال هذه المطالب حيّة وحاضرة بقوّة إلى يومنا هذا. وإزاء هذا الزخم الثوري، تبرز الديموقراطية التشاركية في شكل النظام السياسي الأكثر مناسبة للمرحلة لكونها تجسّد روح الثورة من خلال كثافة المشاركة الشعبية ولكونها رافعة أساسية للتنمية الجهوية و المحلية. أهمّيّة هذا الرهان تقتضي منا إذا دراسة معمّقة، متجذرة في الواقع التونسي، ومستنيرة بتجارب الدول الأخرى، من أجل انتقاء آليات الديموقراطية التشاركية الأنسب و اعتمادها بالشكل الأكثر نجاعة وفاعلية.
الكاتب: حاتم دمق – منسق برنامج صناعة السياسات العامة بمؤسسة الياسمين
partucipation